وقال (القرشي) المرجح الداعي: وعند استواء الدعا إلى الفعلين فالمخصص القادر بقصده واختياره بدليل أنه لو سئل عن المخصص لأحدهما لقال: اخترت، قال: ولسنا نعني بكون تأثير القادر على جهة الاختيار إلا هذا، وبهذا تقع التفرقة بين الموجب والمختار، فالمطالب لنا بمخصص وراء القادر مطالب لنا بإبطال معنى القادر، وإدخاله في حد الموجب، ولسنا نسلمه، ولا بد للرازي من النزول على مثل هذا الجواب، وإلا بطل عليه كون الباري مختاراً وهو قد نزل عليه، ولكنه كثير التخليط.
وأما قولهم بلزوم التسلسل إذا كان وقوع الفعل عند المرجح على سبيل الجواز فقد دفعه القرشي بما مر في الرغيفين ونحوهما فإنه يأخذ أحدهما لا لمرجح مع استواء الداعي إليهما، ومع جواز أن يأخذ الآخر، ومراده رضى الله عنه بقوله: لا لمرجح يعني لا لمرجح سوى الداعي إلى الفعل؛ إذ قد تقدم أنه يثبت المرجح، لكن لا بالمعنى الذي قصدوه.
والحاصل أن المرجح ليس إلا الإرادة أو الداعي، وما ادعوه من أمر سواهما فلا يعقل، ولا دليل عليه، وعلى هذا لا خلاف في المعنى بين من نفى المرجح من العدلية، وبين من أثبته؛ لأن النافين لا ينكرون الداعي، والإرادة، والمثبتين لم يثبتوا أمراً سواهما.

فائدة [في معنى الداعي والمرجح]
كثيراً ما يذكر أصحابنا الداعي والمرجح، وقد يخفى معناهما على كثير، فأحببنا الكشف عن ماهيتهما، وتحقيق معناهما في هذا الموضع؛ إذ هو أخص من غيره لتقدم ذكرهما قريباً فنقول: المرجح ما يرجح الفعل على الترك أو العكس، والداعي هو الباعث على الفعل أو الترك وهو قسمان: داعي حكمة، وداعي حاجة، أما داعي الحكمة فهو العلم أو الاعتقاد أو الظن بأن في الفعل منفعة للغير، أو دفع مضرة عنه، وأما داعي الحاجة فهو علم الفاعل، أو ظنه، أو اعتقاده أن له في الفعل منفعة أو دفع مضرة عنه، أو عمن يحب، وقد يسمى داعي الحاجة إلجاء، وذلك حيث لا يقاومه صارف، والصارف هو العلم، أو الاعتقاد، أو الظن بأن عليه في الفعل مضرة، أو فوت منفعة عنه، أو عن من يحب.
قلت: وعلى هذا فالمرجح يشمل الباعث والإرادة كما لا يخفى.

المسألة السابعة: فيما يعلم بأدلة العقل والشرع
اعلم أنما يعلم بالدليل أنواع:
النوع الأول: ما لا يعلم إلا بالعقل: وهو كل ما كان العلم بصحة الشرع موقوفاً على العلم به، كالعلم بالله سبحانه وبصفاته من كونه قادراً عالماً حياً غنياً، وأنه عدل حكيم لأن ما عدا معرفته تعالى بصفاته وعدله وحكمته فرع عليها، فلو استدللنا بشيء منها على الله تعالى والحال هذه لكنا قد استدللنا بفرع الشيء على أصله، وذلك لا يجوز.
بيان ذلك: أن الكتاب إنما يكون حجة متى ثبت أنه كلام عدل حكيم لا يجوز عليه الكذب، والسنة لا تكون حجة إلا متى ثبت أنها سنة رسول ذلك العدل الحكيم، وأما الإجماع والقياس فهما راجعان إلى الكتاب والسنة، وذلك كله فرع على معرفة الله تعالى، ومعرفة عدله وحكمته، وهذا قول جماعة من المتكلمين منهم (أبو هاشم)، والسيد (مانكديم)، و(القرشي)، و(قاضي القضاة)، و(ابن متويه) وغيرهم.
وقال (أبو هاشم): ولا يصح الاستدلال على شيء من ذلك بالسمع سواء كان قطعياً أم ظنياً، مثيراً أم لا، قال: لأن ذلك فرع على ثبوته تعالى وعلى صدق قوله.

وقال (أئمتنا)" و(الجمهور): بل يصح الاستدلال على ثبوت الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول ومعنى الاحتجاج بها أن نذكر المذهب الذي نريد إثباته، ثم نأتي بما يدل عليه من هذه الآيات، ثم نذكر وجه دلالتها على المطلوب بما يستخرج منها من الطرق العقلية، واحتجوا على ذلك بأنها أدلة منبهة على أقوى طرق الفكر الموصل إلى العلم بالمطلوب، فهي دليل بالتدريج فإنها دليل على طريق الفكر، والفكر دليل عليه تعالى، ففيها خروج من دليل إلى دليل حتى ينتهي العقل إلى المطلوب كما في الاستدلال على كونه تعالى حياً، فإنه يستدل على ذلك بصحة الفعل، وصحة الفعل لا يخرج منها إلى كونه حياً، وإنما يخرج منها إلى القادرية، ومن القادرية إلى الحيية، فيقال مثلاً: هذا قد صح منه الفعل، ومن صح منه الفعل فهو قادر، والقادر لا يكون إلا حياً، فكما أن صحة الفعل تكون دليلاً مع التدريج المذكور على الحيية كذلك الآيات بالتدريج السابق تكون دليلاً على ثبوت الباري تعالى.
ومن كلام علي عليه السلام : (فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم). رواه في النهج.
وهو نص في المقصود، وقد استعمل ذلك كثير من (أئمة العترة)"، فإنهم يحتجون بالآيات المثيرة على وجود الله تعالى وعدله، وذلك مشهور عنهم في كتبهم، وقال أبو رشيد ورواه في الأساس عن بعض متأخري الشيعة: بل يصح الاستدلال على ثبوته تعالى بالقطعي مطلقاً.

قلت: لعله أراد ببعض متأخري الشيعة (الشيخ الحسن بن محمد الرصاص)، فإن صاحب الجوهرة ذكر أن كلما لم يكن العلم بصحة الشرع موقوفاً على العلم به، فإنه يصح أن يعلم بالعقل والشرع، قال: وقد مثل ذلك في الكتاب بكونه تعالى موجوداً ونفي التشبيه، والرؤية، وكالعلم بكون القياس، وخبر الواحد طريقاً يجب العمل بهما، ثم قال: فأما كونه تعالى موجوداً فممتنع، وأراد بالكتاب كتاب الشيخ الحسن كما يظهر من كلامه في ديباجة الجوهرة. والله أعلم.
وقالت (الإمامية) و(البكرية) -وهم أصحاب بكر بن عبد الواحد- من المجبرة وبعض المحدثين: بل يصح الاستدلال على ثبوت الباري بالظني من الآيات وغيرها مثيراً، وغير مثير.
والجواب: أن الاستدلال بغير المثير دور؛ لأنه لا يكون دليلاً إلا لكونه من عند الله، ولا يثبت كونه من عنده إلا بعد ثبوته، وثبوت عدله، فيتوقف الدليل على حصول المدلول عليه، وهذا هو الدور.
قال السيد المحقق (أحمد بن محمد بن لقمان) رحمه الله: اللهم إلا أن يقال: إنه يصح الاستدلال بكتابه تعالى على وجوده، لكن لا على طريقة الاستدلال به على الأحكام الشرعية، بل على طريقة أخرى، وهي أن يقال: قد ثبت أن القرآن كلام والكلام لا بد له من متكلم، وليس المتكلم به البشر لما ثبت من عدم قدرتهم على معارضته، وقد تحدوا بها فلم يقدروا، فلم يبق إلا أن يكون المتكلم به غيرهم مخالف لهم في جميع صفاتهم، وليس ذلك إلا الله تعالى، فهذا الاستدلال صحيح كالاستدلال بسائر المخلوقات.
قال رحمه الله: وقد نبه الله على هذا في قوله تعالى: {هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[إبراهيم:52]، فبين تعالى أن القرآن جميعه بلاغ، ومنذر، وسبب للعلم بوحدانيته تعالى، وللتذكر والتفكر من أهل العقول، وليس ذلك إلا على الطريقة التي ذكرناها، فلتتأمل والله أعلم، ذكره في شرحه على الأساس.

وقال الشيخ (الحسن الرصاص )، وصاحب (الجوهرة) الشيخ (أحمد بن محمد الرصاص): إنه يصح الاستدلال على نفي التشبيه بالسمع نظراً لا إلزاماً، فإنه يلزم عليه نفي السمعيات وما ينبني عليه.
وحكى في (الجوهرة) عن صاحب الكتاب وهو الشيخ (الحسن) أنه يصح الاستدلال بالإجماع على نفي التشبيه، وعلى أنه تعالى موجود دون كونه حياً.
قال: ومنع (المنصور بالله) عليه السلام أن يعلم شيء من ذلك بالسمع كـ(القاضي)، و(أبي الحسين).
وحكى (الإمام عز الدين) عليه السلام في (المعراج) عن الشيخ (أحمد بن الحسن الرصاص)، والفقيه (حميد)، والإمام (يحيى)" أنه يصح الاستدلال على كون أفعال العباد منهم وغيرها من جنسها بالسمع، وأنه يكفي في معرفة صحة السمع ثبوت الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم على الجملة، فإذا عرف المستدل عدله تعالى وحكمته، ونبوة نبيه ثبت له صحة السمع.
قال الإمام (يحيى) عليه السلام في التمهيد: اعلم أن التمسك بالآيات، والأحاديث، والإجماع صحيح من جهة النظر، وذلك لأن صحة المسالك السمعية متوقفة على تقرير قواعد الحكمة، والحكمة متوقفة على كونه تعالى عالماً وغنياً، فإذا صح هذان الأصلان صح الاستدلال بالسمع في كل موضع؛ لأن أصوله قد تمهدت.
قال: وأما من حيث الإلزام فممتنع؛ لأنه ما لم يثبت أن الله تعالى لا يفعل القبيح لم يصح الاستدلال بالسمع، فكيف يمكن تصحيح ذلك بالسمع.
قلت: وسيأتي في مسألة خلق الأفعال بحث مفيد في صحة الاستدلال على كون أفعال العباد منهم بالسمع، كنا قد حررناه قبل الاطلاع على ما هنا.
النوع الثاني: ما يصح أن يعلم بالعقل والشرع كمسألة الرؤية، وكون الآحاد حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضه، وقد تقدم ذكر بعض ما اختلف فيه.
النوع الثالث: ما لا يعلم إلا بالشرع كالأحكام الشرعية، وبعض ما له تعلق بها ككون الإجماع والقياس حجة، ونحو ذلك على خلاف في بعضها، وسيأتي الكلام مفصلاً عند الكلام على مفردات المسائل إن شاء الله تعالى.

فرع ويعرف بطلان الدليل إما بإبطاله بقاطع في القطعيات، والظنيات، فالقطعيات نحو ما تقدم من إبطال مذاهب المجبرة في نفي التحسين والتقبيح بأدلتنا القاطعة الدالة على ثبوتهما، والظنيات كإبطال مذهب من يقول إنما الربا في النسيئة بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا }[البقرة:276]، ونحوها من الآيات الصريحة في تحريم الربا مطلقاً، وإما بإبطاله بظني يستلزمه الخصم، أو يدل على صحة الاستدلال به دليل قاطع، وهذا في الظنيات، فالأول كأن يستدل الشافعي على عدم وجوب الصوم في الاعتكاف بقياسه على الوقوف بعرفة بجامع كون كل منهما لبث في موضع مخصوص، فيقال له: فيلزمك أن لا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة، فقد عورض قياسه بقياس يلتزمه.
والثاني: نحو أن يستدل من ينفي القياس على جواز أكل القريط بظاهر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً }[البقرة:29]، فيبطل قوله بالقياس على الخمر بجامع الإسكار، والقياس قد دل الدليل القاطع على كونه دليلاً معمولاً به.
قال في (الأساس): ولا يبطل بغيرهما أي بغير الدليل القطعي، أو الظني الذي يلتزمه الخصم، أو يدل على كونه دليلاً دليل قاطع.
وقال (القرشي) في (المنهاج): قال (أبو الهذيل) يعرف انتقاض الدليل بأحد ثلاثة أمور:
إما بترك إجراء العلة في المعلول، وإما بنقض الجملة بالتفسير، وإما بجحد الاضطرار، مثال الأول: أن يقول الرجل: فرسي جواد لأني أجريته عشرة فراسخ فاستمر، فيقال: أو كل فرس أجري عشرة فراسخ، فاستمر فهو جوادٌ، فإن قال نعم، فقد أجرى علته، واعتبرت صحة دعواه وفسادها بحال غيره من الأفراس، وإن قال لا، قيل له: فقد نقضت علتك، فاطلب لصحة دعواك دلالة.

ومثال الثاني: قول القائل: إذا اشتد حر الصيف اشتد برد الشتاء الذي يليه، وإذا اشتد برد الشتاء اشتد حر الصيف الذي يليه، ثم يقول: وقد يفتران جميعاً، فإنه قد نقض الجملة لأنها لو صحت لاشتد الحر والبرد أبداً، فلا يوجد فتور.
ومثال الثالث: سؤالنا للثنوية عن شبح رأيناه قاعداً على هيئة حصان في مكان مخصوص، أتقولون إنه لم يزل كذلك، فإن قالوا: لا بل قد كان على غير هذه الحالة أقروا بالحدوث، وإن قالوا نعم جحدوا الاضطرار.
قال الشيخ (أبو القاسم): وهذا الكلام كان من حقه أن يكتب بماء الذهب، لعظم نفعه لولا أن كلام الله تعالى خير منه، وقد كتب بالمداد.
قال: وأكثر ما يدور بين الخصوم إجراء العلة في المعلول، وبه نستدل على إبطال كثير من مذاهب خصومنا، مثاله: أن نقول لأهل الجبر في جميع مسائلهم: قد أجزتم على الله تعالى كل قبيح من ظلم، وعبث، وهذيان، وتكليف ما لا يطاق، وإرادة كل قبيح، وزعمتم أنه مع ذلك عدل حكيم لا يقبح منه قبيح، وعللتم ذلك بأن الأمر أمره، وأنه لا يُسأل عما يفعل، وأنه ليس يلحقه نقص بصفات الأفعال قط إذا كانت صفات الذات صفات كمال، فهل تجرون علتكم هذه، فتزعمون أنه يصح أن يقول فيما لم يكن أنه قد كان، وفيما كان أنه لم يكن، وأنه يجوز أن يكلف الجماد، ويكلف ما لم يعلم ونحو ذلك أم لا تجرونها، فإن قالوا نعم يجوز ذلك كله ظهر عنادهم، وأبطلوا الرسل، والوعد، والوعيد، والجنة، والنار، وإن قالوا لا يجوز لعلة كذا قيل لهم: قد نقضتم علتكم أن الأمر أمره، وأنه لا يسأل عما يفعل، فاطلبوا لصحة دعواكم علة غيرها.

واعلم أن إبطال دليل الخصم لا يستلزم إثبات خلاف ما ادعاه على كل حال، بل فيه تفصيل، وهو أنه إن تضمن هذا الدليل الذي أبطل به دليل الخصم إثبات خلافه صح الأمران، أعني إبطال دليل الخصم وثبوت خلافه، وإن لم يتضمنه ثبت الإبطال فقط إلا أن يكون مذهب الخصم الذي أبطله المستدل، ومذهب المستدل في طرفي نقيض إذا بطل أحدهما ثبت الآخر كإبطال شبهة من يزعم قدم العالم، فإنه إذا أبطل قدمه ثبت حدوثه؛ إذ لا واسطة بينهما. ذكر معنى هذا في (الأساس).

خاتمة في تفسير بعض ما يكثر تداوله في كتب النظر والاستدلال من الألفاظ وهي العلة والتعليل والمستند والشرط والدور والمناقضة والمعارضة والملازمة والمناظرة
العلة: ما أثر في صفة أو حكم وجوباً حقيقة كالعقلية، أو مجازاً كالشرعية.
التعليل: تعليق الحكم بأمر، المستند: بيان ما لأجله منع التعليل نحو لا نسلم ثبوت كذا لكذا بل لكذا.
الشرط: ما يقف عليه وجود العلة، أو تأثيرها.
الدور: وقوف ثبوت كل واحد من الأمرين على ثبوت الآخر، أو وقوف العلم به على العلم بالآخر.
المناقضة: دعوى تخلف الحكم المعلل عما علل به في بعض المحال.
المعارضة: تعليل حكم المتنازع فيه بغير ما علل به المنازع.
الملازمة: كون الحكم مقتضياً للآخر، فالمقتضي ملزوم، ومقتضاه لازم كالإنسانية تقتضي الحيوانية.
المناظرة: النطق بما أدى إليه نظر كل واحد من المتنازعين في حكم، أو أحكام خطاباً شفاهاً، وبهذا تمت المقدمة، والحمد لله رب العالمين.

16 / 329
ع
En
A+
A-