نعم قد ذكر الإمام (المهدي) عليه السلام أن الذي لا يتغير عن ماهيته وتعلقه هو الإرادة وليست طلباً، وإنما هي سبب للطلب الذي هو الأمر والنهي، وذكر القرشي أن الطلب هو الإرادة بدليل أنه لا يقال طلبت وما أردت ولا العكس، لكن ليس ذلك الطلب أمراً؛ لأن أحدنا يجد نفسه طالبة للفعل، ولا يوصف بأنه أمر به ما لم يقل افعل، وهو خلاف في العبارة، وذلك أن الإمام المهدي عليه السلام لا يطلق لفظ الطلب إلا على الصيغة ويجعل الإرادة سبباً للطلب، والقرشي يطلقه على الإرادة، ويطلق على الصيغة لفظ أمر ونهي.
وأما استدلالهم على ذلك بأنه قد يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد، فمبني على الجبر، وسيأتي إبطاله.
إذا عرفت هذا وتبين لك بطلان الطلب النفسي بالمعنى الذي زعموه بطل إثبات الكلام النفسي، وببطلانه تبطل شبهتهم هذه؛ لأنها مترتبة عليه، وكيف يقوم الفرع والأصل مختل، فنقول: نحن نلتزم ما ألزمتمونا وهو عدم كون تعلق الطلب ذاتياً.
ومع التسليم لكون تعلق الطلب ذاتياً فالمتعلق بالكسر من حيث أنه متعلق تابع لمتعلقه فلا يتحقق التعلق بدونه، وذلك لا ينافي كون تعلقه لذاته فنقول: تعلق الطلب بالفعل من حيث أنه موصوف بالحسن أو القبح لا بمطلق الفعل، لا ينافي كون تعلقه لذاته.
قيل: وهذه الشبهة موضوعة على نفي الحكمة، ولا خفاء في بطلانه.
الشبهة الثانية: لو لم يكن الباري تعالى إلا مبيناً لما في نفس الأمر من الحسن والقبح لم يكن مختاراً في الحكم، بل يكون كالمفتي والقاضي بين الحكم، ثم ألزم وتوعد، أو وعد على فعله أو تركه.
والجواب: إن أردتم أنه غير مختار، بمعنى أنه لا يقع الحكم بخلاف ما في نفس الأمر فهو مذهبنا، وإن أردتم أنه ليس بمختار بمعنى أنه يصير مضطراً إلى التبيين فلا وجه للزومه، وهو ظاهر البطلان، وأما قولكم إنه يكون كالمفتي والقاضي، فإنما هو تشنيع وإلا فإن الماهيات كلها كالواجب، والقديم، والممكن، والنفي، والإثبات، وغيرها متقرررة بخصوصياتها التي بها تمايزت، وتقررت، وعلمت، ولذا أنكر الله سبحانه على من لم يفرق بين ماهيتين بالاستفهام، والتعجب، والإنكار كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر:9]، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ ...}[الجاثية:21] الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان ِ...}[النحل:90] الآية. ونحوها مما يدل على أن المنهيات والمأمورات متقررة كتقرر القديم، والحادث، والنفي، والإثبات، فمن قال: إنه لا فرق بين الإحسان والإساءة إلا بحسب اعتبار التعارف، وأنه لا معنى للفاحشة إلا بحسب التعارف، وإلا فهي والإيمان سواء في الخلو عن الحكم، وعند الشارع، وإنما اتفق الأمر بأشياء، والنهي عن أشياء لا لأمر، فلا فائدة في مناظرته، ولا الخوض في الكلام معه لهدايته؛ إذ لا مطمع في إنصافه وانقياده للحق.
والحاصل أن الفرق بين تبيين الله تعالى للأحكام، وتبيين المفتي والقاضي لا يجهله إلا غبي، فإن الله تعالى لما كان عالماً بما في بعض الأفعال من المصالح، وما في بعضها من المفاسد قضت حكمته بالأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد باختياره لحكمته، وهذا معنى البيان الحاصل منه سبحانه وتعالى، وليس كذلك بيان المفتي والقاضي.
الشبهة الثالثة: أن القول بثبوت الحسن والقبح عقلاً يؤدي إلى قيام المعنى بالمعنى وتحقيق ذلك على ما ذكره في الغاية وشرحها أن القبح معنى والفعل معنى، فإذا كان القبح صفة ثابتة للفعل لزم قيام المعنى بالمعنى، والدليل على أن القبح معنى أنه ليس ذات الفعل ولا جزءاً منها، فوجب أن يكون زائداً على الفعل، ثم إنه موجود بنفسه؛ لأنه نقيض اللاقبح القائم بالمعدوم والقائم بالمعدوم معدوم، وإذا كان اللاقبح معدوماً فالقبح موجود، وإلا لزم ارتفاع النقيضين، ولا شك في بطلان قيام المعنى بالمعنى؛ إذ العرض لا يحل إلا في جسم، وما أدى إلى الباطل فهو باطل، والجواب من وجهين:
أحدهما: بجريَّه في الشرعي بأن يقال: لو كان قبيحاً شرعياً لقام المعنى بالمعنى إلى آخره، وكذا الحدوث والوجوب والإمكان ونحوها من صفات الأفعال.
الثاني: منع الملازمة إذ لا يلزم من كون اللاقبح أمراً عدمياً أن يكون القبح أمراً وجودياً محققاً، فإن نقيض العدمي لا يجب وجوده، فقد يكون الشيء ونقيضه معدومين معاً، وموجودين معاً، ومنقسمين.
قال في (شرح ابن جحاف): وارتفاع النقيضين إنما يستحيل في الصدق بمعنى أن الشيء الوجودي الصادق في الخارج لا يمكن أن يكون هو ونقيضه مرتفعين فيه، وأما الأمر العدمي الذي لا يصدق في الخارج فإنه يكون هو ونقيضه مرتفعين عن الخارج بلا استحالة في ذلك كالأبوة، واللاأبوة فإنهما مرتفعان في الخارج معاً؛ لأنهما أمر عدمي، والعدمي لا يلزم أن يكون نقيضه موجوداً في الخارج، بل يكون عدمياً مثله فلا يلزم وجود شيء منهما فيه.
قلت: وإذا تقرر أن القبح لا يجب وجوده لم يكن معنى فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى سلمنا، فالمراد بقيام المعنى بالمعنى الاختصاص الناعت وهو أن يختص شيء بآخر اختصاصاً يصير به ذلك الشيء نعتاً للآخر والآخر منعوتاً، وهذا لا محذور فيه، ويستوي فيه الجوهر وغيره.
الشبهة الرابعة: أن العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها بحسن ولا قبح، لأن ما ليس فعلاً اختيارياً لا يتصف بهذه الصفات اتفاقاً، ومن أدلتهم على ذلك أن العبد حال إيقاع الفعل إما أن لا يصح منه الترك فهو المطلوب، وإما أن يصح منه الترك فلا يكون الفعل أولى بالوقوع من الترك من دون مرجح وداع، وإلا لزم وقوع أحد الجائزين لا لمرجح، وذلك يقدح في حدوث العالم.
قالوا: وذلك المرجح لا يصح أن يكون من فعل العبد، وإلا احتاج في وجوده إلى مرجح ومرجحه إلى مرجح فيتسلسل، فتعين أن يكون من فعل الله، وإذا كان من فعل الله فإما أن يقع الفعل عنده على سبيل الجواز أو الوجوب، الأول: باطل لأنه يحتاج في وجوده إلى مرجح آخر فيتسلسل، فتعين الثاني وهو المطلوب؛ لأن ذلك المرجح يكون سبباً وفاعل السبب والمسبب واحد، وهذا الدليل هو الذي اعتمده الرازي وعول عليه، وكرر أنه يهدم مذهب المعتزلة في العدل.
والجواب: أن القول بالجبر معلوم البطلان، فيبطل ما ترتب عليه وستأتي مسألة مستقلة في إثبات العدل ونفي الجبر، وأما الدليل الذي استدلوا به هنا، فالكلام عليه يقع في ثلاثة مقامات:
الأول: في اختلاف العلماء في احتياج وقوع فعل القادر إلى مرجح أم لا.
الثاني: في الدلالة على أن القول بالمرجح لا يوجب الجبر.
الثالث: في المرجح ماهو وممن هو.
المقام الأول: [في احتياج وقوع الفعل إلى مرجح]
اختلف المتكلمون في احتياج وقوع الفعل إلى مرجح، فقالت (البهاشمة) وأتباعهم: كل أمرين استوى الداعي إليهما فإنه يصح من القادر اختيار أحدهما لا لمرجح، واختاره المقبلي، وهو ظاهر كلام (الإمام المهدي) عليه السلام واحتجوا على ذلك بأنه يجوز من الهارب أن يسلك أحد الطريقين المستويين من كل وجه فيما يرجع إلى مقصوده من دون مرجح، وكذلك الجائع يتناول أحد الرغيفين المستويين لا لمرجح، وكذلك من دعاه الداعي إلى صرف درهم إلى أحد المسكينين المتساويين وغير ذلك، وادعوا العلم الضروري بذلك، ومن حججهم ما ذكره (الإمام المهدي) عليه السلام في رد قول الفلاسفة بقدم العالم، وهو أن الفاعل ليس له بكونه فاعلاً حال، فيفتقر إلى مؤثر، وإنما المرجع به إلى أنه وجد منه ما كان قادراً عليه، وليس في ذلك شيء يفتقر إلى مؤثر، فيلتزم أنه حصل فاعلاً بعد أن لم يكن أي أوجد فعلاً بعد أن لم يوجد، ولا يلزمنا أن يفتقر إيجاده إلى مؤثر سوى قادريته.
وحاصل كلامه عليه السلام أن القادر من له أن يفعل وأن لا يفعل، وأنه لا يحتاج في الإيجاد إلى مؤثر سوى قادريته، وهو ينفي القول باحتياجه إلى المرجح، وإلا بطل معنىكونه قادراً.
نعم والقول بعدم احتياجه إلى المرجح إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل، وأما بالنظر إلى كونه مطابقاً للحكمة والعادة فلا بد منه.
وقال (أبو الحسين البصري)، و(محمود بن الملاحمي) و(المجبرة): بل لا بد من المرجح وإلا لم يصح وجوده حيث لا مخصص، ومن أدلتهم أن العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر، فلو جوزنا ممكناً يرجح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح لم يمكنا أن نحكم في شيء من الممكنات في احتياجه إلى المؤثر، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وأجابوا عن مسألة الهارب ونحوه بمنع تساوي غيرين في المقصود منهما من كل وجه، ولو فرض استحال اختيار أحدهما من دون مرجح، ورد بأنكم لا تنكرون أن الله قادر أن يخلق رغيفين مستويين من كل وجه، وأنه يصح منه ذلك، وأنه قادر على أن يخلق للعبد علماً ضرورياً باستوائهما، فإن أنكرتم هذا خرجتم من الدين، وإذا أقررتم به فنقول: هل يقدر سبحانه على أن يخلق له داعياً إليهما على البدل لا على الجمع أم لا، ولا معنى للداعي إلا أنه يوجد له علماً بأن في كل واحد منهما له نفعاً خالصاً، وأن المنفعة بتناول أحدهما حاصلة على الاستواء، لا بد لكم من الإقرار بقدرته تعالى على إيجاد هذين العلمين، وبه يصح ما منعتموه من استواء غيرين من كل وجه، وإذا صح ذلك فنقول: هل قد خلقت فيه القدرة على ذلك الفعل أم لا.
الثاني: خلاف الفرض فإذا كانت قد خلقت فيه صح إيجاده بها، وإلا بطل كونها قدرة عليه، والمرجح ليس جزءاً من القدرة ولا من الباعث، فبطل الاحتياج إليه، وأما قولهم بلزوم سد باب إثبات الصانع، فإنما يلزم لو جوزنا حصول الجائز من غير مؤثر فيه، ولم نقل بذلك أصلاً.
قلت: وفي إطلاق الحكاية عن (المجبرة) بأنه لا بد من المرجح نظر، فإن صاحب المواقف حكى عن الأشعرية أن الفعل لا يحتاج إلى مرجح، وصرح صاحب المقاصد بأن القول بأن الفعل الواقع بلا مرجح اتفاقي، إنما هو إلزام للمعتزلة القائلين بأن قدرة العبد لا تؤثر في فعل إلا إذا انضم إليه مرجح يسمونه الداعي.
قال: ونحن لا نقول به، فإن الترجيح بمجرد الاختيار المعلق بأحد طرفي الفعل لا لداع عندنا جائز، ولبعض محققيهم كلام في إبطال هذا الدليل لما يلزم عليه من اللوازم، وممن ضعفه ابن الحاجب، وأما الرازي فاضطرب كلامه فإنه في رد شبهة الفلاسفة حيث قالوا: القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت، وأن يفعل قبله، أو بعده توقفت فاعليته على مرجح، ومرامهم بذلك نفي حدوث العالم؛ لأنه إذا توقفت فاعليته على مرجح احتاج المرجح إلى مرجح فيتسلسل، التزم أن الفاعل لا يحتاج إلى مرجح في إيجاد أحد المستويين، وربما ادعى العلم الضروري بذلك، وصرح بأنه لا مخلص من شبهتهم التي تقتضي قدم العالم إلا بتجويز وقوع أحد المستويين لا لمرجح، وإلا لزم قدم العالم.
وقال في مسألة خلق الأفعال: لا بد من المرجح وجعله عمدة أدلة المجبرة، بل جعل وقوع الممكن من دون مرجح هنا يسد باب إثبات الصانع، وكأنه بنى مباحثه على الجدل والتعصب لأصحابه لا على طلب الحق أينما كان وعند من كان، وهكذا شأن غيره وهي من المغالطة الخارجية التي قد تقدمت الإشارة إلى تحريمها.
المقام الثاني: في أن القول بالمرجح لا يوجب الجبر وبيانه من وجوه:
أحدها: أنه لو أوجب الجبر في فعل العبد لأوجبه في فعل الله.
قال (الإمام يحيى) عليه السلام : فكما أنه يبطل الاختيار في حق العبد فهو بعينه يبطل الاختيار في حق الله تعالى؛ لأن طريق الفاعلية واحدة، وهذه فلسفة محضة، وقول بالموجب وخروج من الدين.
قلت: وبيان جريه في أفعاله تعالى أن يقال: حال ما فعل الله الفعل إما أن يصح منه الترك أو لا، إن قيل: لا، لزم الجبر، وإن قيل: يصح، قيل: فإذا كان لا بد من المرجح، فوقوع فعله تعالى عنده إما على سبيل الوجوب لزم قدم العالم، وأن لا يكون مختاراً إذ الداعي هنا ليس بفعل الله حتى نقول فاعل السبب فاعل المسبب، وإما على سبيل الجواز لزم التسلسل، فما أجبتم به فهو جوابنا، ولا مخلص لهم من هذا إلا بنفي المرجح، أو نفي كونه موجباً؛ إذ لا فارق إلا كونه تعالى قديماً، والعبد محدثاً، وهو لا يقتضي الفرق في الاختيار.
قال (الإمام يحيى) عليه السلام : فإن قالوا إن كون القديم يجب أن يكون فاعلاً لا يخرجه عن حد الاختيار.
قلنا: وكون فاعلية العبد واجبة لا تخرجه عن حد الاختيار.
الوجه الثاني: أنه يلزم نفي الحسن والقبح الشرعيين؛ لأنهما في الشرع من صفات الأفعال الاختيارية، فإن حركة المرتعش والمغمى عليه لا توصف بحسن ولا قبح في الشرع، ويستلزم أيضاً تكليف ما لا يطاق.
الوجه الثالث: أنا نعلم ضرورة حصول الفعل من دون المرجح كفعل الساهي والنائم، ولو كان لا يصح من دونه لما وقع، وإلا كان تأثيراً بلا مؤثر وهو باطل، وهذا يصلح حجة أيضاً لمن لا يشترط المرجح.
الوجه الرابع: أنه لو كان تأثيره على جهة الإيجاب لما تمكن الفاعل من ترك الفعل عند وجوده، والمعلوم ضرورة أن الإنسان قد يترجح له الفعل ولا يفعله.
الوجه الخامس: أن الدواعي والمرجحات من قبيل الاعتقادات والظنون التي لا تأثير لها في الإيجاب، فثبت أن القول بالمرجح لا يستلزم الجبر. فإن قيل: فما تقولون فيما قاله أبو الحسين وغيره حيث قال الداعي موجب، فإن هذا تصريح بمذهب المجبرة، ولذا قال (الرازي): إن (أبا الحسين) يقول بالجبر إلا أنه يتستر من أصحابه، ومثله قول أبي القاسم البلخي: أن من دعاه الداعي إلى الفعل لا بد أن يفعله، وقول الجاحظ: إذا قوي الداعي وقع الفعل بالطبع، وإن تكافأ هو والصارف وقع بالاختيار.
قيل: أما (أبو الحسين) فلم يقصد إلا ما قصده غيره من علماء العدل، وهو أنه إذا توفرت الدواعي، وانتفت الصوارف وجب الفعل عندها، وجوب استمراري عادي لا وجوب تأثير، ومثلوا ذلك بمن حضره طعام شهي وهو شديد الجوع ولا صارف عنه، فإنه إن لم يأكل لم يحكم بقدرته أو كمال عقله، وإنما ألزمه الرازي الجبر لغلطه في فهم مقصده؛ لأنه ظن أنه أراد وجوباً كوجوب المعلول عن العلة.
وأما (أبو القاسم) فقال (الإمام المهدي) عليه السلام : الأقرب أن مقصده كمقصد سائر المعتزلة من أن المراد بالوجوب وجوب استمرار لا بمعنى أنه يستحيل خلافه، قلت: وكذلك كلام الجاحظ فإنه يمكن حمله على هذا.
المقام الثالث: في المرجح ما هو وممن هو عند القائلين به من العدلية
فقال (الحسين بن القاسم) عليه السلام : المرجح الإرادة وهي من العبد، ولزوم التسلسل ممنوع؛ لأن المحتاج إلى الإرادة هو الفعل المتوجه إليه بالقصد لا الإرادة؛ إذ حصولها ليس إلا بتبعية الفعل المراد، وقد ذكر الشريف أن كل عاقل يعلم من نفسه أن إرادته للشيء لا تتوقف على إرادته لتلك الإرادة.
وقال (الإمام يحيى) عليه السلام : إذا قال السائل ما الذي يرجح وجود المقدور على عدمه؟ فمن جوابنا أنه القادر، فإذا قال: فلم وجد في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده ولم اختص بالحصول دون ضده؟ قلنا: الفاعل المختار أوجده لقيام داعيه، فمتى قال فلنفرض قيام الداعي في كل واحد من الضدين على سواء، قلنا: من هاهنا يتميز القادر على الموجب، فإنا لو جرينا في هذا الموطن على طلب مخصص لأحد مقدوريه دون الآخر غير كونه فاعلاً مختاراً لألحقناه بباب الموجب، وخرج عن حد الاختيار، وهذا يرفع ما عرفناه ضرورة من الفرق بين القادر والموجب، وحصل من مجموع ما ذكرنا أن الفاعل مفتقر في الأصل إلى الداعي ليبعثه على الفعل، وعند فرض الاستواء في الفعلين من كل الوجوه يفعل أحدهما دون الآخر من غير أمر وراء كونه فاعلاً مختاراً.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وفي كلامه عليه السلام ما يشفي في جواب هذه الشبهة التي أوردها الرازي، ويفتح مقفلها، ويحل معضلها.