فإن قيل: نحن نسلم امتناع ذلك، لكن لا لما ذكرتم، بل لأنه صفة نقص والنقص على الله محال.
قيل: لا شك أن كل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمال محمودون لكمالهم، وأصحاب النقص مذمومون بنقصهم، فجوابكم هذا تسليم للمدعى وهو القبح العقلي، ولهذا قال (ابن تاج الشريعة): إن إنكار (الأشعري) الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، يعني مع تسليمه الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقصان.
وقال في (المواقف) وشرحه: إنه لم يظهر له فرق بين النقص في الفعل والقبح العقلي فيه، فكيف يصح التمسك في دفع الكذب عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى، هذا معنى كلامه.
فإن قيل: نحن نقطع بامتناع ظهور المعجز على يد الكاذب لكن لا للقبح العقلي، ولا لكونه صفة نقص، بل للعادة والتجربة.
قيل: إن أردت أن التجربة أفادتك أن المعجزة لا تظهر إلا على صادق، وأن الله تعالى لا يخبر إلا بالصدق، فهذا لا يفيدك لأن السؤال وارد على نبوة كل نبي، وعلى كل خبر من جهته تعالى، فما دلك على صدق الجزئيات حتى حصل لك العلم بالأمر الكلي الصادر عن التجربة.
وإن أردت أن الله أجرى عادته بخلق العلم بصدق المعجزة عند ظهورها وليس العلم حاصلاً عنها، فهو يؤدي إلى عدم دلالة المعجزة على النبوة، مع أن الذي نعلمه من أنفسنا أن هذا العلم الضروري لم يحصل لنا، وإنما عرفنا أن المعجز من فعل الله، وعرفنا وجه الإعجاز فصدقنا به؛ لأن من صدقه الله فهو صادق لا لغير ذلك، ثم إنا نقول: متى يخلق الله هذا العلم أبعد معرفة وجه دلالة المعجزة، فهو لا يتم حتى نعرف أن من صدقه الله فهو صادق، أم يقول إن الله تعالى يخلقه عند رؤية المعجزة أو سماعها، فهذا كذب ضرورة؛ إذ قد رآها الكفار وسمعوا بها فلم ينقادوا لها، ولم يخبر من أسلم منهم بأنه حصل له العلم عند أول ما رأى أو سمع بها من دون نظر.
فإن قيل: خلق الله لهذا العلم ممكن فلا وجه للقطع بعدمه.

قيل: نحن نقطع بعدم كثير من الممكنات كقطعنا بأنه ليس بحضرتنا فيل أو نحوه، وقد تقدم أنه يجب القطع بنفي ما لا دليل عليه، ولو جوزنا حصول هذا العلم أو نحوه مما لا دليل عليه لصح ما يدعيه السوفسطائية من عدم العلم ونحوه، على أن الباقلاني قد أبطل دعوى العادة بأنه يجوز خرق العادة فيجوز إخلاء المعجز عن الصدق، وحينئذٍ يجوز إظهاره على يد الكاذب.
فإن قيل: لو سلم ما ذكرتم من منع ظهور المعجز على يد الكاذب، وسلم أن العادة لا توجب امتناعه، فلا نسلم أن امتناعه للقبح العقلي بحيث أنه لو انتفى القبح العقلي انتفى الامتناع لجواز أن يمتنع لدليل آخر، إذ لا يلزم من انتفاء دليل معين وهو القبح العقلي مثلاً انتفاء العلم بالمدلول، وهو امتناع الثقة بخبر الله تعالى، والعلم بصدق النبي.
قيل: أما نحن فقد كفانا هذا الدليل، وأما أنتم فأنتم باقون على تجويز الكذب وعدم الوثوق بالشريعة، ولا ينفعكم إلا وجود الدليل لا جوازه، وإنما هذه مغالطة وتلبيس لا يليق مثلها من المتصدين لتمهيد قواعد الشريعة، وكأنَّ المقصود الجدل، وما يدفع عنكم إفحام الخصم وهذه كتبكم لا يوجد فيها إلا تداول هذه العبارات، والأعذار الباردة التي لا اعتماد عليها، ولو كان هذا الدليل موجوداً لكان قد اطلع عليه ولو فرد واحد منكم فالله المستعان، فرحم الله من جعل نظره في العلوم نظراً مطابقاً لمراد الله، قاصداً به خلاص نفسه من ظلمات الجهل وأسر التقليد.
فإن قالوا: الدليل هو العادة فقد عرفناك بطلانه، وإن قالوا: بل هو كونه صادقاً لذاته لأنه متكلم لذاته، فهو مبني على كون كلامه تعالى قديم وهو واضح البطلان، وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، مع أنه يلزمهم أن يكون الله تعالى كاذباً لذاته إذ لا فرق عندهم بين الصدق والكذب بالنظر إليه تعالى، وحينئذٍ يبقى التجويز على أصله، ولا يدفعه إلا إثبات القبح العقلي، وهو المطلوب والحمد لله.

الحجة الثالثة: لو لم يكن الحسن والقبح عقليين بل شرعيين فقط لجاز التعاكس وهو حسن النهي عن الحسن، والأمر بالقبيح، وقبح الأمر بالحسن، والنهي عن القبيح، فيحسن النهي عن التوحيد والعدل والإنصاف، وتكون هذه الأفعال قبيحة، وبطلان ذلك معلوم ضرورة، ويلزم أيضاً خروج الفعل عن الحسن والقبح حيث لم يقع أمر ولا نهي، وفيه خروج من النفي والإثبات.
فإن قيل: لا محذور في خروجه عن أيهما فيكون مباحاً.
قيل: قد تقدم أن الحسن ما للقادر عليه أن يفعله والقبيح عكسه، فكان المباح من جنس الحسن، وسيأتي الدليل عليه إن شاء الله.
فإن قيل: المعلوم بطلانه إنما هو حسن الإساءة وقبح الإحسان بمعنى الملائمة والمنافرة والكمال والنقص.
قيل: قد تقدم الجواب على هذا، مع أن حسن التوحيد بمعنى الملائمة لا يتصور إذ ليس مما تستلذه النفس لذاته، وهذه الحجة إلزامية أيضاً.
الحجة الرابعة: وهي إلزامية لزوم إفحام الرسل لأن المرسل إليهم يقولون لمدعي الرسالة لا يلزمنا إجابتك حتى يثبت الشرع عندنا، ولا يثبت لعدم معرفتنا لصدقك، ولا نتعرف الشرع حتى يجب علينا تعرفه، ولا نعرف الوجوب حتى نعرف الشرع، فقد تمانع الأمران.
فإن قيل: فيلزمكم مثله في النظر لأن وجوبه عندكم نظري فيقولون: لا ننظر حتى يوجبه العقل، ونحن لا نلزم نفوسنا النظر في وجوبه.
قيل: قد تقدم أن العقل يعرف ببديهته وجُوب شكر المنعم وقبح الإخلال به، ولا طريق لنا إلى تفاصيله إلا بواسطة الرسل، فإذا ادعى الرسالة مدع وجب علينا النظر لئلا نخل بما أوجبه العقل ضرورة، فسقط الاعتراض، وصار دليل وجوب النظر ملازم لدعوى الرسالة، وليس متوقفاً على اختيارنا.

وجه آخر: وهو أنه لا بد من باعث على وجوب النظر لئلا يكون من تكليف الغافل، وذلك الباعث إما الخاطر أو التخويف من جهة نفسه، أو من جهة غيره كالرسول، وأيضاً لا ريب أن من عرض له حيرة في شيء يخشى من إغفاله ضرراً فإنه يناله هم وغم يضر به، فإن أزال الحيرة بالنظر حتى تتبين له الحقيقة، أو بالاحتياط وهو نوع من النظر أيضاً، وإلا فلا شك في أنه يستحق اللوم على ترك إزالة ذلك الضرر مع التمكن منه، وهذا خاصية القبح، فكيف من خوفه الرسول بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وفوت كل نفع، وإدراك كل ضرر، لا بد لمثل هذا من أن يجد من نفسه مزعجاً على النظر بحيث يذم على تركه، وهذا معنى قولنا: إن دليل وجوب النظر ملازم، فصح أن النظر واجب يدرك وجوبه بأدنى التفات بحيث يقرب من الضروريات، وقد ضرب له الغزالي مثلاً وهو أنه لو قيل لإنسان: الأسد خلفك مقبل عليك وهو آخذك إن لم تهرب، فإذا قال لا أهرب حتى أعلم صدق خبرك ولا أعلمه حتى ألتفت، ولا ألزم نفسي الالتفات حتى يجب علي.
قال: فهذا معدود من الحمقى لا من العقلاء، هذا معنى المثل، وهو يدل على أن هذه قضية يعلمها العاقل ضرورة.

[الأدلة على أن الانتفاع عقلي]
هذا وأما الحجة لما ذهب إليه أئمتنا" ومن وافقهم من حسن الانتفاع بما لا ضرر فيه مما لم يرد فيه حكم شرعي من الأشياء فمن وجوه:
أحدها: عدم حكم العقلاء بذم من استظل تحت شجرة، أو تنفس في الهواء، أو مشى في الفضاء، وعدم حكمهم أيضاً بمدحه وثوابه وعقابه، فوجب القول بحسنه لما مر من أن الحسن ما لا عقاب عليه ولا ذم.
الثاني: أنا نقطع بأن كل نفع لم تُشِبْه مضرة فإنه يحسن الانتفاع به، كما نقطع بحسن الإحسان، ونعلمه ضرورة من غير فرق.
الثالث: أنه لابد في خلقها من غرض، وإلا كان عبثاً، والغرض لايجوز عوده إلى الباري تعالى لاستحالة الضر والنفع عليه تعالى، فلا بد من عوده علينا، ثم ذلك الغرض إما أن يكون ضرراً، أو نفعاً، الأول باطل لأنا لا نعلم في تناولها ضرراً، بل نفعاً عظيماً، ولأنها لو ضرت لم تضر إلا بتناولها، وفي ذلك إباحتها أيضاً، ولأنه تعالى لا يحصل منه الضرر، ولا القصد إليه لغير المستحق له لتعاليه عن الظلم، فتعين الثاني وهو أن غرضه تعالى انتفاعنا بها للتنعم، ولا يتم الانتفاع إلا بإدراكها وتناولها، وفي ذلك إباحتها.
الرابع: أنه لا خلاف في حسن ما يضطر إليه الإنسان كالتنفس في الهواء، والشرب من الماء الجاري عند عطشه، ونحو ذلك مما تدعو إليه الضرورة، فكذلك سائر المنافع بعلة أنها منفعة لا مضرة فيها على أحد.
قال في (الجوهرة): وبذلك بطل قول الواقفية؛ لأن ذلك قول بالحظر، فإن من لا يعلم حسن الشيء لا يحل له أن يفعله، واعترضه الدواري فقال: ليس ذلك قول بالحظر؛ لأن القول بالحظر النطق بأن هذا محظوراً، أو اعتقاده أو ظنه، والواقفية لا يقولون بذلك، ولا يعتقدونه ولا يظنونه.

الخامس: ما ذكره في الغاية وشرحها، وهو أنه إذا ملك جواد بحراً لا ينزف وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر، فلا قبح يدرك بالعقل في ذلك ضرورة، وتناول العبد المستلذات التي خلقها الله من دون إضرار بمنزلة تناول مملوك قطرة من بحر ملك بل أقل.
قال عليه السلام : وما قيل: من أنه إن أريد أن لا حكم بالحرج فمسلم، ولكنه لا يستلزم الحكم بعدم الحرج، وإن أريد خطاب الشارع بعدم الحرج فلا شرع، وإن أريد حكم العقل بالتخيير تناقض؛ لأن المفروض أنه لا حكم للعقل فيه، فجوابه اختيار الآخر ومنع التناقض، فإن المفروض أن لا حكم للعقل فيه بخصوصه، ولا ينافيه الحكم العام بالإباحة.
قلت: أراد عليه السلام أنه لا يتصور التناقض إلا لو قيل بالتخيير فيما حكم فيه العقل بخصوصه؛ لأنه والحال هذه يقتضي إثبات حكم العقل فيه، والمفروض أنه محل النزاع، فأما ما لا حكم له فيه باعتبار محل النزاع، وإنما حكمه فيه على جهة الإجمال وهو الحكم العام بالإباحة فلا تناقض، وحاصله أن محل النزاع ما لا يدرك فيه العقل جهة محسنة، أو مقبحة بخصوصه لا على جهة الإجمال فإنه يدركه، والكلام مبني على إيراد وجوابه لسعد الدين، وقد أوردهما سيلان في الحاشية فراجعه.
احتج القائلون بالقبح، وقد تقدم بيانهم بوجهين:
أحدهما: أن ذلك تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيقبح.

والجواب: لا نسلم القبح مطلقاً، وإنما يقبح إذا تضرر، ولذا لا يستقبح من أحدنا النظر في مرآة غيره، والاستظلال بشجرته، ونحو ذلك مما لا ضرر فيه على المالك، فكيف بمن لا يجوز عليه التضرر في حال من الأحوال، سلمنا فنقول: التمكين من أملاكه مع العقل المميز لما يؤخذ وما يترك إذن منه تعالى لنا بالتصرف، وطريقة التمييز ما تقدم من أنه لا يجوز خلقها لغير غرض، وأنه لا يجوز أن يكون الغرض عائداً عليه تعالى، ولا إرادة الضرر بنا فتعين أنه نفعنا، فعلمنا بذلك حسن الانتفاع بما فيه نفع، والاجتناب لما فيه ضرر، وصار الحال في ذلك كالممكن من أملاكه الناصب للعلامة فيما يؤخذ منها وما يترك.
الوجه الثاني: أن هذه المنافع تحتمل الإباحة، ويحتمل أن يكون تناولها مفسدة فقبح الإقدام عليها كالخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فإن الإقدام عليه يقبح، وأجيب بأن العقل قاض بقبح الإقدام على الخبر المحتمل؛ لكونه على صفة لا يؤمن معها ارتكاب القبيح، وليس ثمة ما يرفعها، بخلاف المنافع فإن كونها على صفة يمكن الانتفاع بها يدعو إلى تناولها ولحسنه، ولم يرد عقل ولا سمع بالمنع فافترقا.
احتج أهل الوقف وهم الأشاعرة بأن كون هذه الأشياء ملك لله يقضي بالمنع من الانتفاع بها إلا بإذنه، وكونها مهيئة للانتفاع، ولم يرد في العقل ولا في السمع ما يمنع من الانتفاع يقضي بالإباحة فوجب الوقف، والجواب يعلم مما تقدم.

تنبيه
قد تقدم في كلام الأمير الحسين والإمام يحيى والشرفي وغيرهم ما يدل على أن معرفة الحسن والقبح ضرورية، وهو قول أبي الحسين وأصحابه، فلا يحتاج إلى الاستدلال.
قال (الإمام عز الدين) عليه السلام : وكل مسألة يدعي فيها نظير (أبي الحسين) في التحقيق الضرورة لا تفتقر إلى إيراد كثير من الأدلة وتطويلها.
وقال (أبو هاشم) وأصحابه: بل هي نظرية ولهم في إثباتها أدلة واضحة وإلزامات راجحة، وقد قدمنا شطراً من ذلك، وقد رد القول بأنها نظرية السيد (أحمد بن محمد الشرفي) رحمه الله، وأجاب على القائلين بذلك بما ذكره الإمام (يحيى) عليه السلام في الشامل، وهو أن الفرق بينما يعد من العلوم النظرية، والعلوم الضرورية واضح بين، فإن العاقل يعلم الضرورية من غير اعتبار نظر، ولا إعمال فكرة، وما كان حاصلاً بطريق النظر، فإنه لا بد فيه من العناية باستحضار مقدماته، وترتيبها على وجه صحيح وحراستها عن الغلط، ونحن نعلم ضرورة من هذه القضايا أنها حاصلة للعقلاء من غير اعتناء ولا نظر.
قلت: وقد قدمنا بحثاً نافعاً في بيان ما يكون به الضروري ضرورياً في آخر المسألة التي قبل هذه، فتأمله فإنه نافع مفيد.

الموضع الرابع: في ذكر شبه المخالفين وبيان بطلانها
أحدها: ما اعتمده (ابن الحاجب) في (مختصر المنتهى)، وهي أنه لو حسن الفعل وقبح لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لذاته، وهي مبنية على أن كلام الله تعالى قديم، وأنه معنى قائم بذاته، وتوضيحها أن الأشاعرة يقولون بقدم كلام الله تعالى، وأنه معنى كما ذكرنا.
قالوا: والمعنى المراد هنا وهو الطلب مغاير للإرادة والعلم والفكر، وسموا هذا المعنى طلباً؛ لأن أحدنا يجد من نفسه إذا أراد أن يأمر غيره بشيء أنها طالبة لذلك الشيء سواءً وجدت الحروف والأصوات أم لا، وذلك الطلب هو الكلام عندهم لا صيغة الأمر والنهي؛ إذ لو كان الطلب هو الصيغة لما اختلف حاله بالمواضعة، ومعلوم أنه يختلف باختلاف المواضعة، فإنه يجوز أن توضع صيغة الطلب للخبر والعكس، بل يجوز أن لا توضع لمعنى، وإذا ثبت وجود الطلب من دون الحروف والأصوات، وأن صيغة الطلب لم يكن لمجردها اقتضاء، ثبت أنها لم تكن أمراً ولا نهياً إلا لدلالتها على الطلب، وذلك الطلب هو الأمر والنهي، قالوا: وماهية الطلب ليست أمراً وضعياً بدليل أنها لا تنقلب ماهية لغيره، قالوا: فثبت أن الكلام النفسي هو هذا الذي لا تنقلب ماهيته، والصيغة دالة عليه، وإذا ثبت هذا فالمعلوم ضرورة أن الطلب متميز عن العلم والإرادة، والفكر، والقدرة، والحياة وغيرها، وإنما يشتبه ببعضها، وذلك نحو اشتباه طلب الفعل بالإرادة، وطلب الترك بالكراهة.

قالوا: وليس ذلك الطلب نفس الإرادة والكراهة بدليل أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، وإذا ثبت هذا ثبت أن الحسن والقبح لا يرجعان إلى نفس الفعل، إذ لو كانا كذلك لبطل كون تعلق الطلب ذاتياً؛ لأنه والحال هذه طلب الفعل والترك لأمر يرجع إلى الفعل، وهو ما له من الصفات والاعتبارات، وتقرير هذه الشبهة إنما هو تبع (للمقبلي) فإنه قال إنها مبنية على أن الطلب صفة ذاتية متميزة عن العلم والإرادة، وفي كلام (السعد) عن بعض الشراح ما يدل على بنائها على هذا، و(للعضد) تقرير آخر لعله يعود إلى ما هنا.
والجواب: أن هذه الشبهة مبنية على أصل فاسد وهو قدم كلامه تعالى، وأنه معنى، ونحن لا نسلم شيئاً من ذلك، وليس هذا موضع بيان فساده، إلا أنا نتكلم هنا على إبطال الطلب الذي أثبتوه مغايراً للإرادة ونحوها، وما يترتب عليه، فنقول: إن هذا المعنى الذي سميتموه طلباً لا يعقل ولا دليل عليه، وإثبات ما لا دليل عليه يفتح باب الجهالات، ويوجب تجويز المحالات، ثم إنه مبني على أن الطلب للفعل يثبت قبل الأمر به والنهي عنه، وبطلانه معلوم ضرورة، فإن المعلوم أن أهل اللغة لا يسمون الساكت آمراً ولا ناهياً، وإنما الطالب عندهم هو الناطق بصيغة الطلب، وأما دعواهم مغايرته للعلم والإرادة، فجوابه أن ذلك الذي يجده أحدنا من نفسه قبل النطق بالصيغة إنما هو إرادة الكلام، أو العزم عليه، أو العلم بترتيب حروفه، أو التفكر في كيفية ترتيبها، فإذا كان الموجود هو أحد هذه الأشياء فكيف يكون مغايراً لها، وأما قولهم: لو كان الطلب هو الصيغة لما اختلف حاله، فجوابه: أن ذلك لا يتم إلا بعد أن يتقرر أن لفظ الطلب يفهم منه معنى غير اللفظ لا يتغير، وقد بينا أن أهل اللغة لا يطلقون الطلب إلا على الصيغة، وإذا كان الطلب هو الصيغة فلا حرج في تغيره بالمواضعة.

14 / 329
ع
En
A+
A-