المسألة السادسة: في التحسين والتقبيح العقليين
ووجه ذكر هذه المسألة في هذا الموضع أنه يترتب عليها كثير من مسائل الكتاب، كمعرفة عدل الله الذي هو تنزيهه عن الظلم والجور، وتكليف ما لا يطاق، وأنه لا يخلف وعده ولا وعيده، وكمعرفة حكم الأشياء التي لم يرد بيانها في الشرع من حسن وقبح، وتحريم وتحليل وغير ذلك، ولذا قال السيد مانكديم: (هذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها).
قال الإمام المهدي عليه السلام : إنما وصفها بذلك؛ لأنها قاعدة الخلاف بيننا وبين المجبرة في جميع مسائل العدل، فلو وافقونا في هذه المسألة وافقونا في سائر مسائل العدل، ولو وافقناهم هنا لم نخالفهم في سائر مسائله فلأجل ذلك حسن منا تقديم الكلام عليهما، وبيان كيفية استقلال العقل بمعرفتهما ليكون مغنياً عن تكرار الاحتجاج على ثبوتهما عند عروض ما يترتب عليهما، وإذا أردنا تحقيق الكلام في المسألة واستيفاءه على وجه يحصل به اليقين، ويزول معه الشك والتخمين، فلنجعل الكلام فيها في أربعة مواضع:
الأول: في تحقيق بيان حد الحسن والقبيح، والمدح والذم، لأنهما من لوازمهما فلا ينبغي ترك بيانهما.
الثاني: في بيان موضع الخلاف.
الثالث: في حجج العدلية ورد ما يرد عليها، والكلام في شيءٍ مما اختلفوا فيه فيما بينهم.
والرابع: في شبه المخالفين وبيان بطلانها.

الموضع الأول: في حدود هذه الأمور المذكورة
أما الحسن فهو ما كان لفاعله فيه غرض وتعرى عن وجوه القبح ذكر هذا الحد الإمام المهدي عليه السلام قال: (وإن شئت قلت هو ما ليس بقبيح، ولفاعله فيه غرض صحيح).
قال: فخرج بذلك فعل الساهي، والنائم، والصبي، والمجنون، وما لم يقصده الفاعل كانخفاض الرمل وارتفاعه بالمشي، فإن ذلك كله لا يوصف بحسن ولا قبح، ولا يلحقه مدح ولا ذم.
وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس: هو ما لا عقاب عليه أي ما لا يستحق فاعله عليه عقاباً، فيدخل في ذلك الواجب والمندوب والمباح سواءً كانت عقلية أو شرعية، وأما القبيح فقد ذكروا له حدين: أحدهما: حقيقي، والآخر رسمي.
أما الأول: فهو ما ليس للقادر عليه المتمكن منه الإقدام عليه على بعض الوجوه.
قال الإمام عز الدين عليه السلام : (وهذه الأوصاف تجري مجرى الذاتية إذ لا تعقل ما هية القبيح مع كون المتمكن منه الإقدام عليه، وليست ذاتية لأنها أوصاف للقادر عليه لا له).
قال عليه السلام : (والظاهر أيضاً أنها حقيقية رسمية، فإن قيل: الإخلال بالواجب قبيح عقلاً وهو خارج عن الحد فانتقض طرده، قيل: إنما نشأ هذا الاعتراض من توهم أن ما في قوله ما ليس للقادر عليه... إلخ عبارة عن الفعل، ونحن نقول: ما المانع من أن يكون عبارة عما هو أهم من ذلك، ويكون المعنى القبيح أمراً ليس للقادر عليه)... إلخ.
ولفظ أمر يطلق على الفعل والترك، سلمنا فقد قيل: إن الترك فعل بدليل قول الشاعر:
لئن قعدنا والنبي يعمل .... فذاك منا العمل المضلل

سلمنا، فقد أجاب الإمام المهدي عليه السلام بأن القبيح في اللغة إنما هو من صفات الأفعال يقال: فعل قبيح ولا يقال نفي قبيح، وقد يوصف الإخلال بالواجب بالقبح تجوزاً تشبيهاً للترك بالفعل، لا يقال: فيلزم أن لا يستحق المخل بالواجب عقاباً، لأنا نقول: لا نسلم أنه لا عقاب إلا على قبيح، بل لا عقاب إلا على معصية، والإخلال بالواجب معصية قطعاً.
قال عليه السلام : وإنما قلنا إن القبح مختص بالأفعال؛ لأنه مسبب عن وجه يقع عليه كما سيأتي، والنفي لا يعقل فيه اختلاف وجوه وقوعه؛ إذ وقوعه غير متجدد إذ الأصل النفي.
وأما الرسمي فقال القرشي: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه إلا في حالة عارضة، وقوله على بعض الوجوه يشمل القبائح الواقعة من الساهي، والنائم، والصغائر، والواقعة من الصبيان، ومن لا يعقل، والواقعة من الملجأ والمكره؛ إذ كل هذه قبائح لا تستحق الذم عليها إلا على بعض الوجوه، على خلاف في قبح بعضها كما سيأتي، وقوله: (إلا في حالة عارضة) احتراز من تناول الخمر والميتة عند الضرورة، فإنه واجب، ومع ذلك فهو يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، وقد اعترضه الإمام عز الدين عليه السلام فقال على قوله إلا في حالة عارضة: (اعلم أن ظاهر هذا القيد لا يفيد ما أراد به من الاحتراز، بل يفيد نقيضه؛ لأن تناول الميتة يستحق الذم عليه على بعض الوجوه، ولا يستحق الذم عليه إلا في حالة عارضة، وكما أنه يدخل تناول المضطر للميتة بقولنا على بعض الوجوه، فإنه يدخل بقولنا إلا في حالة عارضة، ولعل الوجه في تمشيته أن لا يجعل استثناء من قوله هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم، بل يجعل استثناءً من المحدود كأنه قال في جمع هذه القيود فهو قبيح إلا في حالة عارضة فليس بقبيح، قال عليه السلام : وعلى كل حال ففيه ركة).

قلت: أحسن الحدود ما ذكره الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس وهو أنه جعله ضد الحسن فهو ما يعاقب فاعله.
قال بعض شراحه: وقد يزاد فيه على بعض الوجوه ليحترز به عن صغائر القبائح إذا كانت من غير مرتكب الكبيرة والمصر عليها، فإنها قبيحة، ولا يعاقب عليها؛ لأنها مكفرة لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31] وإن كانت من المصر فإنه يعاقب عليها؛ إذ لا صغيرة مع إصرار لقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ...}[الكهف:49] الآية.
وليحترز به عن الملجأ إلى فعل القبيح، وعن القبائح الواقعة ممن لا تكليف عليه فإن ذلك كله قبيح ولا عقاب عليه.
قلت: وأما المجبرة فلعلهم يحدون الحسن بأنه ما أمر به الشارع، أو ملائم الطبع وكان صفة كمال، والقبيح ما نهى عنه، أو ما نفر عنه الطبع، أو كان صفة نقص.
وأما المدح والذم فقال أصحابنا: المدح قول ينبي عن ارتفاع قدر من وجه إليه مع القصد، والذم: قول ينبي عن اتضاعه كذلك، واحترزوا بالقصد عن الحكاية كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }[المائدة:64].
وعن التعريف كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }[طه:21]، فلم يقصد بذلك الذم.
وقال الرازي: بل المدح هو الإخبار بكون من وجه إليه مستحقاً؛ لأن يفعل به ما يفرح به، والذم الإخبار بأنه يستحق أن يفعل به ما يحزن به، ورد أنه يلزمه أن يكون قولك للفقير أنت تستحق أن أطعمك رغيفاً مدحاً، ولا قائل به، ولا يقتضيه عقل ولا لغة، ويخرج منه قول القائل: فلان ظالم فاسق؛ إذ ليس بإخبار باستحقاق مع كونه ذماً عند جميع العقلاء وأهل اللغة، ثم يستلزم أن يخرج مدح الباري تعالى، وذلك خلاف ما أجمعت عليه هذه الأمة ومن سبقها من الأمم.

الموضع الثاني: في بيان محل الخلاف
اعلم أنه لا نزاع في أن العقل يستقل بمعرفة الله تعالى ووحدانيته.
قال ابن المنير الإسكندري: اللائق بقواعد السنة أن يقال: أما معرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته، واستحالة كون الأصنام آلهة فمستفادة من أدلة العقول، وقد ترد الأدلة العقلية في مضامين السمعيات، وأما وجوب عبادة الله وتحريم عبادة الأصنام فحكم شرعي لا يستفاد إلا من السمع. ذكره في حاشيته على الكشاف، ولا خلاف أيضاً أن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبيح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، أو كونه صفة كمال أو صفة نقص، وهذان القسمان، قال الرازي: لا شك في معرفتهما بالعقل.
قلت: أما المعنيان الأولان وهو ما كان بمعنى الملائمة للطبع والمنافرة فليسا عقليين عند التحقيق؛ إذ يدركهما من لا عقل له، وبهذا يسقط قول الإمام المهدي أنه يلزمهم قبح بعض المحسنات كالفصد والحجامة لتألم النفس بهما، وهم قد فسروا منافرة الطبع بتألم النفس، ويلزمهم حسن ما يلتذ به من المقبحات كالكذب والظلم، لأنهم قد فسروا الملائمة بالالتذاد النفسي، وبيان سقوطه أنهم يلتزمون ذلك التفسير لأن قولهم مثلاً بقبح الفصد من حيث أن النفس تنفر منه لتألمها به لا من حيث النفع المقتضي لحسنه، فالنفرة من هذه الحيثية أعني من حيث التألم لازمة له ولا يختص بها العقلاء، وكذلك القول في حسن الكذب بالمعنى المذكور، فإن حسنه من حيث أنه التذّ به لا من حيث كونه كذباً، فتأمل.
وأما المعنيان الأخيران أعني التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص كما يقال: العلم حسن أي كما لمن اتصف به، والجهل قبيح أي نقصان لمن اتصف به، ولا نزاع في أن هذا المعنى ثابت للصفات يدركه العقل.

وإذا عرفت موضع الاتفاق، فاعلم أن في تحرير محل النزاع اختلافاً، وسببه عدم التأمل عند النقل للأقوال، وعدم البحث في كتب المنقول عنهم، فإنك تجد أصحابنا ربما يتداولون عبارات قد نقلها من لا معرفة له بمقاصد الخصوم على ما فهم عنهم، أو رآها لِوَاحدٍ منهم فنسبها إلى جماعتهم، فتبعه من بعده من دون نظر إلى كتب الخصوم، وربما أوجب هذا التساهل، وكذلك الأشعرية تراهم ينسبون إلى المعتزلة ما لا يقولون به، أوما لا يقل به إلا بعضهم، كما ينسبون إليهم كثيراً القول بوجوب الأصلح ولم يقل به إلا بعضهم كما سيأتي، ونحن نأتي في هذا الموضع بمحل النزاع، وننبه على ما قيل فيه من الأوهام فنقول:
قال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الأساس: قال أئمتنا" وصفوة الشيعة، والمعتزلة، والحنفية، والحنابلة، وبعض الأشعرية.
قال الشارح: -ولعلهم الغزالي، والرازي، والجويني-: إن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبيح باعتبار كون الشيء متعلقاً للمدح والثواب والذم والعقاب في العاجل فقط، إلا أن العدلية يقولون إن إدراك العقل لهما بهذا الاعتبار بفطرته التي فطره الله عليها ويعلم ذلك بضرورته، ومن عداهم يقولون إنما أدرك ذلك للشهرة بحيث لو خلي العقل وشأنه لما قضى بشيء من ذلك، فالقبح والحسن عندهم بأحد أسباب الشهرة المتقدمة.
قال الإمام القاسم عليه السلام : (ويستقل العقل بمعرفة الحسن والقبح باعتبار كون الشيء متعلقاً للمدح عاجلاً والثواب آجلاً، والذم عاجلاً والعقاب آجلاً، وحكي هذا القول عن أئمتنا" وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم)، وأراد بالغير محققي الإمامية. ذكره ابن لقمان في شرحه.
قال عليه السلام : (وقال جمهور الأشعرية: لا مجال للعقل في هذين الاعتبارين، وحكى اتفاقهم جميعاً على منع إدراكه للحسن والقبح باعتبار كونه متعلقاً للثواب والعقاب أجلاً، ووافقهم على هذا الحنفية والحنابلة).

قلت: وفي معنى ما ذكره عليه السلام ما ذكره ولده علامة المتأخرين الحسين بن القاسم" في شرح الغاية فإنه ذكر في تحرير محل النزاع أن الحسن والقبح يقالان لِمعَانٍ ثلاثة ثم قال: الثالث: تعلق المدح والثواب بالفعل عاجلاً وآجلاً، والذم والعقاب كذلك، ثم قال: هذا في أفعال العباد، وإن أريد ما يشمل أفعال الله تعالى اقتصر على المدح والذم.
قال عليه السلام : (وهذا هو محل النزاع فعند الأشاعرة هو شرعي؛ لأن الأفعال كلها عندهم ليس شيء منها يقتضي في نفسه مدح فاعله وثوابه، ولا ذمه وعقابه، وإنما صارت كذلك بسبب أمر الشارع ونهيه، وعند العدلية عقلي لأن للفعل في نفسه جهة محسنة من غير نظر إلى الشرع مقتضية لاستحقاق فاعله مدحاً وثواباً، أو مُقَبِحةٌ مقتضية لاستحقاقه ذماً وعقاباً، إلا إن تلك الجهة قد يدركها العقل بالضرورة، وقد يدركها بالنظر، وقد لا يدركها بأيهما، لكن إذا ورد به الشرع علم أن ثم جهة محسنة كما في صوم آخر يوم من رمضان، أو مقبحة كما في صوم أول يوم من شوال، فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بأمره ونهيه، وأما كشفه عنهما في القسمين الأولين فهو مؤيد لحكم العقل بهما إما بضرورته، أو بنظره.
هذا تحقيق محل النزاع على ما ذكره الإمام القاسم وولده عليهما السَّلام .

[الجواب على المقبلي وابن الأمير]
وقد اعترض العلامة المقبلي، والسيد محمد بن إسماعيل الأمير على تقييد الحسن والقبح بالثواب والعقاب، وعلى تقييد المدح والذم والثواب والعقاب بالعاجل والآجل، وقالا: (ليس محل النزاع إلا أن العقل يقضي بمدح فاعل الحسن، وذم فاعل القبيح من دون تعرض لثواب ولا عقاب، ولا لعاجل ولا لآجل، وإنما ذلك من التخليط في النقل عن المعتزلة).
قال: وهذه كتب المعتزلة موجودة ليس فيها ذكر شيء من ذلك.
قال المقبلي: (وأما ما نحن فيه فلا يقولون بلزوم الثواب والعقاب فيه إذ هما من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح).
وقال ابن الأمير: (الذي رأينا في كتب المعتزلة في تقرير محل النزاع أن العقل يقضي بذم فاعل القبيح ومدح فاعل الحسن، ولم يذكروا ثواباً ولا عقاباً، ولا عاجلاً ولا آجلاً، ولم يذكروا غير هذا المعنى للقبح أصلاً، ثم حكى عن القرشي وقاضي القضاة، والسيد مانكديم من الحدود للحسن والقبح ما يصحح دعواه من عدم ذكر الآجل والعاجل، والثواب والعقاب.
قال: وإنما وقع التخليط بسبب نقل مذاهب المعتزلة من كتب الأشعرية مع الجهل بأصول المعتزلة، ثم أخذ في التشنيع على من نسب التقييد بالآجل والعاجل والثواب والعقاب إلى المعتزلة، وضمه إلى محل النزاع، وقال: إن معرفة الآجل شرعي محض قطعاً، واستدل على ذلك بأن العرب عقلاء وكانوا منكرين للبعث بدليل قوله تعالى: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا}[الجاثية:24] ونحوها.
قال: فالعجب كله كيف يروج لفاهم أن يدعي أنه يعرف بالعقل الثواب والعقاب قبل ورود الشرع، ويجعله محل النزاع، ويلطخ به المعتزلة افتراءً... إلى آخر ما ذكره من التشنيع.
وللمقبلي نحوه من التشنيع ونسبة الناقلين إلى التخليط والنقل من كتب الخصوم.

والجواب: أن التخليط وعدم التثبت إنما وقع من السيد محمد بن إسماعيل والمقبلي لعدم تحقيقهما لعلوم العترة الزكية وسائر العدلية، وأما ما ذكره الإمام القاسم وولده -عليهما السلام- فهو الجاري على قواعد العدل، وذلك أن الثواب والعقاب يلازمان المدح والذم، ويستحقان بما يستحقان به من فعل الحسن وارتكاب القبيح، ولذا قالوا في دليل دوام الثواب والعقاب أنهما نظيران للمدح والذم وهما يستحقان دائماً، فكذلك الثواب والعقاب لاتحاد جهة الاستحقاق في الكل.
ولا أظن إلا أن السيد محمداً والمقبلي يريدان التمويه بهذه الدسيسة ليتوصلا بذلك إلى منع كون الثواب والعقاب يستحقان عقلاً، لكنها دسيسة مكشوفة فإن كتب الزيدية والمعتزلة تزيل التمويه، وتدفع التشكيك بلا كلفة، بل ذلك أشهر من نار على علم.
هذا القرشي في (منهاجه) والسيد مانكديم في (شرحه) اللذين حكى عنهما السيد محمد ما تقدم مصرحان في كتبهما عنهما وعن علماء العدل باستحقاق الثواب والعقاب عقلاً، وأنهما يستحقان بما يستحق به المدح والذم، ولهذا أثبت أهل العدل دوام الثواب والعقاب.
وأما قاضي القضاة فمذهبه أن العقاب لا يثبت إلا عقلاً، وسيأتي تحقيق هذا كله في مواضعه، وبهذا يتبين لك أن ابن الأمير والمقبلي لم يشنعا إلا على أنفسهما، ولم يرجع لومهما إلا عليهما.

وللمقبلي في أول (العلم الشامخ) ما يخالف كلامه في مسألة التحسين والتقبيح في تقرير مذهب المعتزلة فيهما، وعند التحقيق فإن السيد محمداً والمقبلي لم يوافقا العدلية في هذه المسألة، وإنما وافقا ابن تيمية وطائفته؛ لأنه ممن يقول بهذا الاعتبار، حتى أن السيد محمد بن إسماعيل قال: إن الحسين بن القاسم وهم في اقتصاره على العدلية، ثم قال: إنه قول جمهور الحنفية وكثير من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وحكاه أبو الخطاب عن أكثر أهل العلم، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة والقفال وغيرهما من أصحاب الشافعي، وطوائف من أئمة الحديث، وعدوا القول الأول من أقوال أهل البدع.
قلت: يعني بالقول الأول القول بأن العقل لا يدرك الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، فأما بمعنى الثواب والعقاب فالسيد محمد قد أخرجه من محل النزاع كما تقدم، وحينئذٍ اتضح الحق وصح النقل، وظهر لك أن الرجلين إنما يحاولان إبطال إدراك العقل لاستحقاق الثواب والعقاب، ولو حاولا ذلك ونسباه إلى أنفسهما لكان أجمل بهما.
وأما نسبة ذلك إلى المعتزلة والتمويه بإطلاقات بعضهم في حد الحسن والقبح مع تقييده بقواعد لا يمكن دفعها، فهو ينادي عليهما بالغباوة، أو عدم معرفة أصول العدلية، أو التمويه، وإذا عرفت هذا فاعلم أن الحدود التي حكاها ابن الأمير عن القرشي وغيره، وأنهم اقتصروا على المدح والذم لا يفيدهما فيما راما إثباته لأن في تلك الحدود اكتفاءً، وبناءً على الاختصار؛ لأن المدح والذم يغنيان عن ذكر الثواب والعقاب للتلازم بينهما كما مر من اتحاد جهة الاستحقاق مع ملاحظة شمول الحد لأفعال الباري تعالى، فتأمل.

12 / 329
ع
En
A+
A-