[3] وزعم بعضهم أنها على ظاهرها في تحريم نكاح كل كافرة كتابية كانت أو مشركة روي ذلك عن ابن عمر ومحمد بن علي الباقر وهو مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام ، وتأول الهادي في الأحكام آية المائدة إذا أسلمت بعد أن كانت كتابية.(1)
__________
(1) ـ ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(22) وهل يعقل أن يتزوج المرء بامرأة كافرة يهودية أو نصرانية ويعيش معها وهو يكرهها وإن لم يكرهها فليس بمؤمن
قوله تعالى : { والمطلقات يتربَّصن بأنفسهنَّ ثلاثة قُروءٍ } (1)
قيل : كان في ابتداء الإسلام إذا طلق الرجل امرأته وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما لم تضع ولدها سواء كان الطلاق ذلك ثلاثا أو أكثر أو أقل فنسخ الله ذلك بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } (2)
__________
(1) ـ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228) البقرة قيل لفظ الآية عام خصص من عمومه الحامل والآيسة والصغيرة لا على وجه النسخ ، وقيل أراد به جميع المطلقات ثم نسخ منه الحبالى بقوله تعال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ونسخ منه الآيسات من الحيض والأصاغر بقوله تعالى : { واللا ئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } وقد أجمعت الأمة على أن التي فارقها زوجها قبل الدخول لا عدة عليها لقوله تعالى: { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها }
(2) ـ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230)البقرة
قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } الآية } (1)
قيل : إن آخر الآية منسوخ بقوله تعالى : { وإن أردتم استبدال مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا. الآية } وأول الآية منسوخ بقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } (2) { } الآية وقيل : ليست بمنسوخة وهو الوجه والاستثناء يخص إباحة الأخذ من المختلعة ،
وأول مختلعة كانت في الإسلام :جميلة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس بن شماس
فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله لا أنا ولا ثابت فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: (أتردين عليه حديقته ) وكان تزوجها على حديقة نخل فقالت : نعم وأزيد فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما الزيادة فلا ، فقال ثابت : هل يطيب ذلك يا رسول الله قال [(صلَى الله عليهِ وآلِه وسَلَّمَ ) ] : نعم فطلقها عليه .
قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم
__________
(1) ـالطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(229) البقرة
(2) ـ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا(4) النساء
متاعا إلى الحول غير إخراج } (1)
كانت المرأة إذا مات زوجها اعتدت سنة ولها النفقة في ماله والسكنى في منزله فنسخ الله المدة بقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } (2) ونسخ الوصية التي فيها بآية المواريث عند الهادي عليه السلام ومن قال بقوله ، وقيل :
بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا وصية لوارث) (3) وعليه الأكثر
وهو اختيار الإمام المنصور بالله عليه السلام ونسخه للمدة لا يكون نسخا لوجوب النفقة لأن الآية إذا تضمنت حكمين فنسخ أحدهما لا يكون نسخا للآخر هذا مذهب الأكثر وعلى قول المؤيد بالله [ عليه السلام ] في ذلك نظر ، ورجح الحاكم أن الآية منسوخة على كل حال ولم يفصل
__________
(1) ـ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240) البقرة
(2) ـ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) البقرة
فائدة : قال هبة الله بن سلامة إنه ليس في كتاب الله آية ناسخة في سورة إلا والمنسوخ قبلها إلا هذه الآية ةآية أخرى في الأحزاب وهي قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } نسختها الآية التي فبلها يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزاجك
(3) ـ سبق تخريجه ص 7
قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } (1)
نسخت بآية السيف ، ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام وهو قول السدي (2) وابن زيد وهبة الله أبي القاسم المفسر وقيل : ليست منسوخة والمراد بها أنه لا يصح الإكراه في الدين لأنه من قبيل الاعتقاد (3) واستدلوا به على أن طلاق المكره وعتاقه وبيعه لا يقع ، وقال عبد الله بن الحسين عليه السلام : نزلت في أهل الكتاب
__________
(1) ـ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)البقرة 256
(2) ـ هو الإمام المفسر الشيعي أوتي إسماعيل السدي حظا في علم القرآن ، اسمه إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الهاشمي كنيته أبو محمد ، السدي الكوفي الأعور أصله حجازي مولى زينب بنت قيس بن مخرمة وإنما قيل له السدي لأنه كان يقعدفي سدة الجامع قال يحيى القطان : ماسمعت أحدا يذكر السدي إلا بخير مات سنة 127 هـ وهذا هو السدي الكبير أما السدي الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي وهو متروك تمت
(3) ـ قال الزمخشري في كشافه في فسير هذه الآية : أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكن والاختيار ونحوه قوله تعالى { ولوشاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، أفأنت تكره الناس حتى يكونا مؤمنين }
قوله تعالى : { وأَشْهِدوا إذا تبا يعتم } (1)
قيل : إن الكتابة والإشهاد كانا واجبين فنسخ ذلك بقوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته } (2) وإذا نسخ الوجوب لم ينسخ الاستحباب ، وقيل : المراد بالإشهاد والكتابة : الندب ولا نسخ في الآية وهو الوجه
__________
(1) ـ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)البقرة 282
(2) ـ البقرة 283
قوله تعالى : { وإن تُبدوا ما في أنفُسِكم أو تُخفوه يُحاسِبْكم به الله } (1)(2) الآية
تدل على أن الله تعالى يؤاخذ بالظنون والعزوم
وذلك يوافق قوله صلى الله عليه وآله وسلم :( نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شرمن عمله ) (3)
وذهب بعضهم إلى أنها منسوخة (4) وأن العبد لا يؤاخذ بالعزم وهذا لا يجوز لورود الدلالة على خلافه (5)
__________
(2) ـ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(284)البقرة
(3) ـ الموجود في كتب السنة بلفظ غير هذا ففي مسند الشهاب ج1 ص119 (نية المؤمن أبلغ من عمله )، ( نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله ) وفي المعجم الكبير ج6ص185 ( نية المؤمن خير من عمله وعمل المنافق خير من نيته وكل يعمل على نيته فإذ اعمل المؤمن عملا نار في قلبه نور)
(4) ـ نسخها قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم
(5) - قال الشوكاني في تفسيره الجزء :1الصفحة :461"لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"
. قوله: " وإن تبدوا ما في أنفسكم " إلى آخر الآية، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسر أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال: الأول أنها وإن كانت عامة، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر. وقد روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص. والقول الثالث: أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص، فإن قوله: "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: "إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها". قوله: "يحاسبكم به الله" قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه: "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله" فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" مستأنفة: أي فهو يغفر وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله: "يحاسبكم به الله" وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي بجزم الراء والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو جواب الشرط: أعني قوله: "يحاسبكم به الله". وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو العالية وعاصم الجحدري بنصب الراء والباء في قوله: "فيغفر" "ويعذب" على إضمار أن عطفاً على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل، وبه قرأ الجعفي وخلاد.
وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: "لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: "لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم" الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ثم جثوا على الركب، فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلك بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل " لا تكلف نفس إلا وسعها " إلى آخرها". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد فأنزل الله "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" قال: قد فعلت "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" قال: قد فعلت "واعف عنا واغفر لنا وارحمنا" الآية، قال: قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق. وأخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أحسبه ابن عمر "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي نحوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضاً.
وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به". وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عنها نحوه، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله يقول يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.
قوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (1)
ظاهر الآية يدل على أن العبد مكلف باستعمال جميع وسعه ، فنسخ ذلك بقوله تعالى { يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (2) ذكر ذلك هبة الله المفسر ، والأولى أنها غير منسوخة ، والمراد بالآية في الواجب
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (3)
__________
(1) 5 ـ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ْ(286) البقرة 286
(2) ـ البقرة 185
(3) ـ في صحيح البخاري 6744 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى اللهم عليه [وآله ] وسلم قَالَ دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ * و في صحيح مسلم ج4ص1830 ما نهيتكم فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم . وفي مسند أحمد بن حنبل ج2ص355 : ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فخذوا منه ما استطعتم . وفي صحيح ابن حبان ج1ص200 : ما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وما أمرتكم بالأمر فأتوا منه ما استطعتم
[ سورة آل عمران ] السورة التي يذكر فيها آل عمران مدنية إجماعا
قوله تعالى : { وإن تولَّوا فإنما عليك البلاغ } (1)
قيل : نسخت بآية السيف ، وقيل : نزلت في أهل الكتاب وليست منسوخة (2)
قوله تعالى : { إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } (3)
قال مجاهد : كانت التقية في أول الإسلام فأما بعد أن أعز الله دينه بوجود الناصر فلا ، وهي منسوخة بآية السيف ، وقيل : ليست بمنسوخة والعمل بالتقية جائز عند العجز عن الجهاد وعن الهجرة وهو الوج
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } (4)
__________
(1) ـ صدر الآية : فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20) آل عمران كانت الآية في الأصل التي نسخت عليها فإن تولوا هكذا كانت في نسختين خطيتين ولم أر لها وجه في السبعية لهذا صححتها
(2) ـ قيل نزلت سكينة لجأشه صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كان يتعب نفسه في الحرص على إيمان قومه فقيل له إنما عليك البلاغ لا أن تسوق قلوبهم إلى الصلاح فالآية على هذا محكمة
(3) ـ لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28)آل عمران
(4) ـ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) آل عمران
قيل : هي منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } (1)عن قتادة والربيع وابن زيدوا لسدي قال مقاتل : ليس في آل عمران منسوخ سواها وقال أبو علي : هذا خطاء لأن من اتقى جميع المعاصي فقد اتقى الله حق تقاته ،ومثل هذا لا يجوز نسخه لأنه إباحة لبعض المعاصي (2)
(سورة النساء) مدنية بالإجماع
قوله تعالى { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } (3)
__________
(1) ـ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(16) التغابن
(2) - قال الشوكاني في تفسيره : الجزء :1الصفحة :554"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"
قوله 102- "اتقوا الله حق تقاته" أي: التقوى التي تحق له، وهي أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله ولا يفعله شيئاً مما يلزمه تركه ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه. قال القرطبي: ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك، فأنزل الله "فاتقوا الله ما استطعتم" فنسخت هذه الآية. روي ذلك عن قتادة والربيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا. وقيل إن قوله "اتقوا الله حق تقاته" مبين بقوله "فاتقوا الله ما استطعتم" والمعنى: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. قال: وهذا أصوب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى. قوله "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي: لا تكونن على حال سوى حال الإسلام فالاستثناء مفرغ، ومحل الجملة: أعني قوله "وأنتم مسلمون" النصب على الحال، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية.
(3) ـوَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا(8) النساء