[نسخ الحج إلى العمرة]
وقد بلغني من حيث أثق به [42/1] أن حفصة قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما للناس حلوا ولم تحل من عمرتك؟ فقال عليه السلام: ((إني لبدت رأسي وقلدت هديي ولا أحل حتى أحل من الحج)) وقد بلغني من حيث أثق به [43/1] أن رسول الله صلى الله [78ب-ب] عليه وآله وسلم لما قدم مكة قال: ((اجعلوا حجتكم عمرة))، فقال الناس: يا رسول الله، قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة؟ فقال: ((انظروا ما أمرتكم به واصنعوه))، وهذا حديث قد تظاهر عندي من غير جهة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بفسخ الحج إلى العمرة بعد الطواف والسعي إلاَّ من ساق هدياً.

[الاختلاف حول معنى نسخ الحج إلى العمرة]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ثم اختلف الناس في معنى نسخ الحج إلى العمرة [19ب-أ] فزعم قوم أن ذلك ينسخ آية من كتاب الله لا يعلمونها، (وقال آخرون بوحي نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي عندنا وبه نأخذ أن ذلك خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه).
ومما يحتج به في ذلك حديث بلال بن الحارث المزني قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاص أم لمن يأتي بعدنا؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم : [34] ((لا بل لنا خاص)).
وقد بلغني عن أبي ذر أنه قال: [ 45/2] (الفسخ إنما كان لأصحاب محمد -صلى الله عليه وعلى [9ب-حـ] آله وسلم- خاصة دون غيرهم).

قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأنا أحسب -والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أهل بالعمرة والحج قرنهما معاً فَعل ذلك الناس بالجهل منهم، وظنوا أنه يجوز بلا سوق هدي، ولا يكون قارناً إلاَّ بهدي، فلما أن فعل ذلك الناس أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [79أ-ب] من لم يسق هدياً أن يجعلها عمرة يتمتع بها إلى الحج، فهذا عندي كما كان المعنى في ذلك مع ما قد قدمنا من قولنا: إنها خاصة له صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه قد بلغني عن ابن عباس أنه كان يفتي بفسخ الحج ويقول: إنه عام غير خاص، ولا يطوف بالبيت أحد إلاَّ أحل، ويحتج بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فسخ الحج إلى العمرة في حجة الوداع، ويحتج بقول الله تعالى: ?ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ? [الحج:33] ، ولا أدري ما هذا الخبر، ولا ما [20أ-أ ] صحته عن ابن عباس. وبلغني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [ 46/2] أن سراقة بن مالك بن جشعم قال: يا رسول الله، عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: ((للأبد للأبد)) كرَّر ذلك مرتين أو ثلاثاً، وفي حديث آخر [47/2] أنه شبك بين أصابعه وقال: ((هي للأبد للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)) فتأول قوم أن قوله ذلك إنما أراد به فسخ الحج الذي يهل به الرجل، ثم يتداوله فيفسخه ويجعلها عمرة، وقال آخرون: إن دخولها في الحج هو التمتع بالعمرة إلى الحج، وهذا قولنا وبه نأخذ، ولا نرى أن الفسخ يجوز لأحد بعد من مضى من الخاصة التي ذكرنا، ومن حججنا قول الله سبحانه: ?فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ? [البقرة: 196] ، فأبان بذلك أن التمتع بالعمرة واجب، وأنه ليس ثمَّ فسخ.

قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: بلغني من حيث أثق به [48/2] أن علي بن أبي طالب عليه السلام حج في حجة فيها عثمان فقال لمَّا لبَّى: لبيك بحجة وعمرة معاً، فقال له عثمان: ترى أني أنهى عن المتعة وتفعلها، فقال له علي -عليه السلام: لم أكن لأدع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحد من الناس.
قال عبد الله عليه السلام: فالصحيح عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرن، وكذلك كان علي عليه السلام والأئمة صلوات الله عليهم من أولادهما، وذلك أفضل سبيل الحج عندنا.

[المتعة لأهل مكة ]
قال عبد الله بن الحسين [79ب-ب] صلوات الله عليهما: ثم اختلف الناس في المتعة لأهل مكة، فقال قوم: إنها جائزة لهم وأنه لا دَم عليهم، واحتجوا بقول الله تعالى: ?ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي [20ب-أ] الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ? [البقرة:196]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وليس ذلك عندي كذلك، ولكني أقول: إن الله سبحانه لم يطلق التمتع لأهل مكة، وأنه إنما أراد بقوله ذلك -والله أعلم- لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أن التمتع بالعمرة إلى الحج مباح لكل من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وأنه قد حظر ذلك على أهل مكة ولم يرخص لهم فيه كما رخص لغيرهم لإمكان العمرة لهم متى أحبوا، وهي لا تمكن الطارئ إلاَّ بمشقة وكلفة، فرخص الله سبحانه لهم في ذلك رحمة منه ورأفة، كيلا تطول غيبتهم وتدوم غربتهم، ولم يجعل الله لأهل مكة أن يعتمروا في أشهر الحج.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ولم يبلغني أن أحداً من الصحابة والتابعين نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج إلاَّ عمر وعثمان فقط، وقد ذكر أن ذلك لم يكن منهما لتحريم، وإنما كان على حب أن يدخلوا [10 أ-جـ] الرفق على أهل الحرمين في كل وقت لمجيء الناس إليهم، ويجب أن لا يخلوا البيت من وفد قاصداً إليه في كل وقت.
وقد بلغني من غير جهة أن عمر رجع عن ذلك، وأنه قال في آخر أيامه: لو اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت.

[أي الحج أفضل]
وقد اختار قوم التمتع وقالوا: إنه أفضل من الإفراد، وقال آخرون: الإفراد أفضل [80أ-ب] .
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: والإفراد عندنا أفضل، وقد ذكر ذلك جدي القاسم عليه السلام واحتج فيه بما فيه كفاية.

[إحرام الحاج من دويرة أهله]
وقد اختلف أيضاً في حديث روي [21أ -أ] عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه [49/2] أن ابن أذينة سأله عن تمام العمرة! فقال: أن تحرم من حيث ابتدأت، من دويرة أهلك.
فقال بعض من قال: كيف يفتي علي بهذا، ويترك المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغلطوا في الحديث وفي تأويله.
وبلغني من حيث أحب: أن علياً عليه السلام إنَّما كان يفتي بذلك من كان منزله من المواقيت مما بين الحرمين وغيرهما، فهذا مما لا اختلاف فيه عنه، وقد ذكرت جميع ما اختلف فيه من ناسخ المناسك ومنسوخها بالتنزيل والسنة في هذا الباب.

[كتاب السير والجهاد والجراح]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأمَّا ما اختلف فيه من ناسخ الجهاد ومنسوخه، فذلك في أربعة مواضع: اثنان في القتال، وواحد في الأسارى، وواحد في الغنائم.

[الإذن بقتال المشركين وفرض الجهاد]
قال الله تعالى: ?وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ? [ق: 45] ، وقال تعالى: ?لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ? [الغاشية: 22] ، وقال عز وجل: ?فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ? [المائدة: 13] ، وهذه الآيات كلها نزلت بمكة قبل الهجرة، ولم يكن الله سبحانه أذن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، فلما أن هاجر إلى المدينة أذن له في ذلك، فكان أول آية نزلت في الإذن في الجهاد قوله تبارك وتعالى -ناسخاً لجميع ما ذكرنا من الآيات التي نزلت بمكة-: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? [الحج:39-40] ، ثم ذكر الجهاد، وأمر به، وندب إليه، وحض عليه في مواضع كثيرة من القرآن: منها قوله تعالى: ?فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ? [التوبة: 5] ، ومنها قوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29] .

ثم غلظ أمر الجهاد وشدد فيه، ومنع المؤمنين من الاستئذان والترك للجهاد، وضيق ذلك عليهم بقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ? [التوبة:44] ، فلما نزلت هذه ضاق الأمر على الناس جداً، فنسخها الله تعالى بقوله: ?وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? [النور:62] .
فجاءت الرخصة بعد التغليظ، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخيار فيهم، وكان أيضاً مما نسخ قوله تعالى:?إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ [10-ب-جـ] صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ? [الأنفال: 65] ، بقوله: ?الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ? [الأنفال:66] .

9 / 16
ع
En
A+
A-