[لمن التخيير في تنفيذ حد الحرابة]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فهذا ما نسخ من السنة بالحدود، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية، فقال قوم: الإمام بالخيار [7ب-جـ] في المحاربين إن شاء قتل وإن شاء قطع، وإن شاء صلب وإن شاء نفى، أي ذلك كان له أن [75ب-ب] يفعله، وقال آخرون: إذا أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله من خلاف ثم يصلب.
[مذهبنا في اختيار عقوبة المحارب]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: والقول عندنا في المحارب: أنه إن أخاف السبيل نفي من الأرض إلى غيرها، إما بالطلب له حتى يهرب منها، أو بالحد ثم النفي، وإن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، فإن أخاف السبيل و أخذ المال وقتل، قُتل وصلب، وقد قال معنا هذا القول جماعة من أهل العلم، وقال قوم منهم الحسن البصري: إنها في المشركين خاصة إذا قاتلوا المسلمين وأسروا في المعركة، كان الإمام فيهم [16أ-أ] بالخيار، أي في الثلاث الخصال شاء فعل بهم، فأما المن والفداء فلا يجوز له إلاَّ بعد إيخاف، و زعموا أن الثلاث الخصال لا تجوز في أهل القبلة، واحتجوا بقوله تعالى: ?إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ? [المائدة:34] ، وقالوا: هذا دليل أنه لا يعني أهل القبلة؛ لأن أهل القبلة إذا أحدثوا ثم تابوا من قبل أن يقدر عليهم لزمهم الحكم فيما أحدثوا، والذي قال بهذا شاذ من الناس لا يلتفت إلى قوله.
[كتاب الشهادات]
قال عبد الله بن الحسين صلوات لله عليهما: وأما الشهادات فقد اختلف فيها وفيما جاء في ناسخها ومنسوخها وهي: الشهادة على البيع، وشهادة القاذف، وشهادة أهل الذمة.
[شهادة على البيع]
قال الله عز وجل: ?وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ? [البقرة: 282] فزعم قوم: أنها محكمة وأن الإشهاد واجب لازم على ما دق وجل مما يتبايعه الناس بينهم ولو حبة، وقال آخرون: إنها منسوخة نسخها قوله تعالى: ?فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ? [البقرة: 283] .
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: والقول عندنا أنها منسوخة، وأن المتبايعين بالخيار في الإشهاد، إن أحبا أشهدا وإن تركا فلا حرج.
[شهادة القاذف]
وأما ما اختلف فيه من شهادة القاذف، وما نسخ من ذلك قال الله سبحانه: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ? [النور:4] ، ثم نسخ هذه الآية بما استثناه من قوله: ?إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا? [النور:5] فزعم قوم أن الآية [76أ-ب] إنما نسخت التوبة الفسق وحده، وأن الشهادة غير مقبولة أبداً [16ب-أ] من قاذف، وزعم آخرون وهم جل الناس: أن التوبة نسخت الفسق والشهادة معاً، وهذا قولنا وبه نأخذ؛ لأن الكلام غير منقطع بعضه يتلوا بعضاً، معطوف الآخر منه على الأول.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ومن الحجة على من يردَّ شهادة القاذف بعد صحة توبته، واحتج بأن الكلام مقطوع، وأن التوبة لم تنسخ إلاَّ الفسق وحده أن يقال له: أَليس جميع أهل العلم مجمعين أن من ارتكب الفاحشة مقبول الشهادة إذا تاب منها؟ والقاذف بها أهون ذنباً ممن ارتكبها فما باله لا تقبل شهادته؟ وكذلك من أشرك بالله ثم تاب كان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : [37/1] ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) وإذا قبل الله التوبة من كل من عصاه، فالعباد أولى أن يقبل بعضهم من بعض، وفي مثل هذا ما يقول الله سبحانه: ?إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ [8أ-جـ] وَرَسُولَهُ...?الآية [المائدة:33] ، ثم قال بعدها ناسخاً لها: ?إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا? [المائدة:34] ، ولا أعلم أحداً من أهل العلم اختلف أن النسخ بالتوبة لجميع ما في الآية كلها، ولا أعلم موضعاً في القرآن فيه استثناء ينسخ فيه شيء دون شيء، إلاَّ استثناءً ناسخاً لجميع الآية وما فيها من جميع الذنوب.
[شهادة أهل الذمة]
وأما ما اختلف فيه من ناسخ قول الله عز وجل ومنسوخه: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ? [المائدة: 106] ، فزعم قوم: أنها في أهل الذمة وأنها محكمة، واحتجوا في ذلك بحجج منها حديث تميم الداري وأخيه النصرانيين [37/] وهما من لخم وكانا تاجرين إلى مكة والمدينة، ثم خرجا إلى الشام ومعهما ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض بن أبى مارية، فكتب وصيته بيده [76ب - ب] ، ودسها في بعض أداته وأوصى إليهما؛ فلما مات فتحا متاعه وأخذا بعضه، فلما قدما على أهله فتحوا متاعه فوجدوا وصيته وفقدوا بعض ما فيها فسألوهما عن ذلك، فقالا: هذا ما قبضنا من متاعه، فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ? [المائدة: 106] ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستحلفوهما بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، ففعلوا فمضوا ماشاء الله ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش بذهب، فقالوا: هذا من متاع صاحبنا، فقالا: شريناه منه قبل موته، فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية الأخرى وهي قوله تعالى: ?فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ
يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ? [المائدة: 107] ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ماكتما وغيبا فاستحلفهما ثم أن تميماً أسلم بعد ذلك فكان يقول: صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء، واحتجوا أن [17ب-أ] الآية خوطب بها أهل التوحيد جميعاً فكيف تكون لبعض دون بعض؟ واحتجوا أيضاً بإجماع المسلمين على أن الشهود لا يمين عليهم، وأنه لا يحبس شاهد حتى يُستحلف من بعد صلاة العصر وأكثروا الحجج والتخليط في هذا القول، وأجازوا شهادة كل ذمي على المسلمين بما أصلوه من حججهم هذه، وقال آخرون: إن الآية كانت كذلك في أهل الذمة ثم نسخت، واحتجوا أيضاً بحجج كثيرة. [77أ-ب]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فالقول عندنا وعند من قال بقولنا أن الآية محكمة، وهي في أهل الإسلام خاصة دون أهل الذمة، ومن الحجة على من خالفنا قول الله عز وجل: ?اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ? فأين العدالة من أهل الذمة وهم يجعلون للرحمن ولداً، ويجحدون محمداً لعنهم الله.
وقد بلغني من حيث أحب [39/1] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المائدة آخر سورة نزلت من القرآن فأحلوا حلالها وحرموا حرامها))، ومن الحجة عليهم أيضاً قوله تبارك وتعالى: ?وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ? ومن الحجة أيضاً قول الله تعالى: ?مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ? فلا يكون من المشركين عدولاً ولا رضى أبداً [8ب-جـ] .
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وإنما غلط من خالفنا في المعنى من جهة تأويل الآية وتفسيرها، وإنما المعنى فيها ?اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ? يعني من القبيلة الحاضرة أو من غيرهم من المسلمين إذا لم يكن فيمن حضر من قبيلتكم عدلان يوثق بهما على أداء الشهادة، ففي غيرهما من قبائل المسلمين، فتأولوا الذين سمعوا الآية [18أ-أ] وظنوا أن قوله: ?أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ? أي من غير أهل دينكم، وأنما المقصود بذلك أهل الذمة، وأن المخاطب بها جميع المسلمين، وأن المخاطبة لمن نزل به مثل ما ذكر الله والمعنى للجميع، وكذلك كتاب الله تجيء اللفظة والمخاطبة للواحد والمراد بها الجميع، وتخرج اللفظة والمخاطبة للجميع والمراد بها الواحد - قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ?يا أيها النبي....?، فخاطبه وحده، ثم قال: ?إذا طلقتم النساء....? للجميع، فكان الخطاب له والمقصود بها [77ب-ب] الجميع، وكذلك قال لجميع قرابة الموصي: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ....? يخاطب أهل الموصي وقرابته وقبيلته بذلك، وهو يريد جميع المؤمنين من بعدهم إن فعلوا ما أمرت هؤلاء به، ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى كرهت بذكره التطويل.
فأمّا ما احتجوا به من استحلاف الشهود وحبسهم من بعد صلاة العصر فإن هذا لا يعرف في شيء من الأحكام بفعل أحد من أهل التوحيد، فإن لله أن يحكم بما يشاء، ويفرق بين ما أحب، ويقرّ من الحكم ما أراد، وينسخ ما أحب، أليس قد حرم الميتة، ثم أباحها عند الضرورة وجعل الصلاة أربعاً، ثم جعلها اثنتين في السفر، وكذلك جعل لمن ذكرنا ممن ضرب في الأرض وسافر ما ذكرنا وحكم به وأقره على كل من احتاج إليه، وليس في حجتهم شيء يثبت لهم حجة؛ لأن المشركين ليسوا بأهل أمانة ولا عدالة ولارضى.
قال عبد الله بن الحسين عليه السلام: فهذا ما اختلف فيه من هذه الآية، ومن ناسخها ومنسوخها وتأويلها [18ب-أ] .
[كتاب الحج]
[مناسك الحج]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فأمّا ما اختلف فيه من مناسك الحج وما نسخ منها فإني لا أعلم أنه نسخ من المناسك شيء غير حج المشركين وحده قال الله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ? [المائدة: 2] ، فكان المسلمون يحجون البيت هم والمشركون جميعاً لا يعرض لهم أحد من المسلمين حتى نسخ الله ذلك بالآية التي يقول فيها تبارك وتعالى: ?إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة:28] . ونسخ ذلك أيضاً قوله سبحانه: ?مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ [78أ-ب] شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ? [التوبة: 17] ، ثم فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسخ ذلك بما سنَّ من صياح علي عليه السلام حين بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنادى بالعشر الآيات اللاتي من أول براءة فآذن المشركين بالحرب، وأن لا يحجوا بعد عامهم ذلك، وأن لا يطوف بالبيت عريان.
[حجة الوداع (النسك الذي أحرم به الرسول)(ص)]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فهذا ما نسخ من مناسك الحج لا أعلم فيه اختلافا، فأمّا ما اختلف فيه وكثر فيه القول في مناسك الحج التي تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه زعم قوم أنه حج حجة الوداع منفرداً بالحج، وهذا عندنا قول شاذ، قليل من رواه، أحسب أن من رواه عائشة وابن عمر، وأمّا الأكثر والأقوى [9أ-جـ] والذي عليه جل الناس، فإنه بلغني من حيث أثق به [40/1] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في ذلك العام قارناً، وأنه ساق معه مائة وعشرين بدنة [9أ-أ] وأنه خرج من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة فهذا ما ذكر في هذا الباب.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وإنما وقع الموج في نسخ الحج؛ فزعم قوم [40] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسند ظهره إلى الكعبة، ثم قال: ((كل من أحرم بالحج وليس معه هدي فليفسخ الحج وليجعلها عمرة))، وأنه أمرهم يوم التروية بالإحرام بالحج والخروج إلى منى وعرفات، وقد تواطأت الأخبار من غير جهة بهذا الخبر.