[من المسائل المتفرقة: آية النجوى]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فأمَّا النجوى وما نسخ منها فإني [88ب-ب] لا أعلم بين أحد من أهل العلم في ذلك اختلاف، فالذي عندي في ذلك أن مناجاة المؤمنين كثرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، وغمته وأحزنت ناساً من المؤمنين، فأحب الله تبارك وتعالى أن يوقفهم عن ذلك منه ويخفف عنه عليه السلام ما قد شق عليه وعلى المؤمنين منها، فأنزل الله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? [المجادلة: 12] ؛ فوقف الناس عن تلك المناجاة غير علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام فإنه قدم وناجاه.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: بلغني من حيث أثق به عن علي عليه السلام [60/2] أنه قال: إن في كتاب الله لآيةً وفرضاً ما عمل بهما غيري، ولا يعمل بهما أحد بعدي، لما أنزل الله: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً? كان معي دينار فصرفته وكنت كلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [14أ-جـ] تصدقت بدرهم، فلم يفرغ الدينار حتى نسخت الآية بقول الله عز وجل: ?أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [30أ-أ] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? [المجادلة:13] ، فهذا مما لا اختلاف فيه مما ذكر من أمر النجوى، والله ولي التوفيق.

[عودة لكتاب الصلاة: صلاة قيام الليل]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ومما اختلف في ناسخه ومنسوخه صلاة الليل وقيامه في سورة المزمل، وذلك أن الله تعالى أنزل [89أ-ب] أولها بمكة وآخرها بعد ستة أشهر بالمدينة، فزعم قوم أن قول الله عز وجل: ?يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزمل: 1-3] ، نزل بمكة وأنه أمرٌ من الله لنبيه بالصلاة في هذه الأوقات التي ذكروا أنها نافلة، ثم نسخ ذلك بقوله في آخر السورة: ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? [المزمل:20]

فزعم أهل هذا القول أن هذا في صلاة الليل، وأنه جاء بعد الأمر بها الرخصة في تركها بالنسخ لها، وقال آخرون: السورة كلها محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وإنَّما أراد الله الأمر بالصلاة فيها والقيام بالقرآن والترتيل له إنما ذلك كله في صلاة العتمة المفروضة، وإنما جاء في آخر السورة من التوسعة في الأوقات رحمةً من الله للعباد، لما ذكر الله سبحانه من علمه بهم، وأن منهم مريضاً [30ب-أ] ومسافراً
ومجاهداً، وهذا الآخر قولنا وبه نأخذ، ومن الدليل على ما قلنا به أن الصلاة التي ذكرت في هذه السورة هي العتمة المفروضة جمع الله لها في آخر الكلام مع الزكاة قال سبحانه: ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا? [المزمل: 20] .

[عودة لكتاب الأطعمة: ناسخ ومنسوخ الطعام]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ومما اختلف فيه أيضاً من ناسخ الطعام ومنسوخه، قال الله سبحانه وتعالى: ?وَلاَ [89ب-ب] تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ? [النساء:29] فلما نزلت هذه الآية تحامأ المسلمون أن يأكل أحد منهم عند أحد بغير عمل عمله له، أو بمعنى مما يكون بين الناس مما يجب فيه الأجرة والحق؛ فكفوا عن ذلك حتى أنزل الله سبحانه: ?لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ? [النور:61] فوقعت الرخصة بالأكل والإذن في ذلك من طعام جميع من ذكر الله تعالى، واحتجوا في قوله ?وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ? (فقالوا: إنما أراد بـ(أنفسكم): إخوانكم كما قال تعالى: ?وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ?) فتأولوا -أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، وكذلك تأولوا قوله تعالى: ?فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ? أي بعضكم على بعض إذا كنتم مؤمنين، وأنتم إخوة كنفس واحدة.
(وتأولوا جميع ما في القرآن [31أ-أ] على هذا التأويل).

قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأمّا الحجة في ذكر الأعمى والأعرج والمريض، فإنه بلغني [61/2] أن قوماً من المؤمنين كان أحدهم يستتبع الزَّمِن والأعرج والمريض من أهل الفاقة ليطعمه، فإن لم يجد في بيته شيئاً ذهب به إلى بيت أبيه أو إلى بيت بعض أقاربه ليطعمه منه فكان المستتبع يكره ذلك ويحتشم منه، فنزلت له الرخصة والإذن بأن لا حرج عليه في ذلك وقد زعم قوم آخرون غير هذا وقالوا: كان المسلمون [14ب-جـ] إذا غزوا يدفعون [62/2] مفاتيح خزائنهم إلى من لا يطيق الغزو من [90أ-ب] الزمانة، من أعرج، أو أعمى، أو مريض ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها، فكانوا يتحرجون من ذلك فنزلت الآية رخصة لهم.
(وقال آخرون: [63/2] إن الأنصار كانوا لا يأكلون من بيوت قرابتهم إذا استغنوا منها، فنزلت هذه الآية رخصة لهم) [وهي] قوله:? وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ? إلى آخر الآية، وزعم قوم أن الله سبحانه إنما أراد بذكر الأعمى والأعرج والمريض أنه قد وضع الجهاد عنهم، ثم استأنف الكلام فقال: ?وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ?الآية إلى آخرها، وزعموا أن أهل الجاهلية كان أحدهم يقول: والله لا أحلب لبناً حتى أجد من أسقيه إياه، ولا آكل طعاماً حتى يكون عندي من يأكل معي، ويقول: والله لا آكل طعام أحد (تكرماً وتنزهاً)، قريباً كان أو بعيداً فأنزل الله سبحانه: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا [31ب-أ] جَمِيعًا من بيوتكم...?الآية.

فهذا ما اختلف فيه مما ذكرنا من التأويل في الزّمنى، وأمّا قوله تعالى:?أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ? يعني ما كان لهم لا لغيرهم، وقد قال قوم: أو لهم فيه شرك، وقد قال آخرون: إن ما ذكر الله من هذا كله إباحة منه لطعام الأقارب خاصةً، وإن لم يأذنوا فيه، وكان من حجتهم أنهم زعموا: إذا جاء الإذن حل به طعام القريب والبعيد.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وهذه الأقاويل عندنا فاسدة، لا يلتفت إلى شيء منها؛ لأنه لو جاز أن يكون مال القريب للقريب مباحاً جاز أن تكون أموال الناس للأعمى والأعرج والمريض مباحة؛ لأنهم المقدمون في الآية وبهم افتتح الكلام، وقد ذكرنا ما أبيح لهم من ذلك، وهذا مما لا يجوز عندنا ولا يصلح أن تكون أموال الناس مباحة، والمعنى عندنا والذي به نأخذ في هذه الآية: أن الله لما أنزل: ?وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ? كف المسلمون عن أكل بعضهم عند بعض كما ذكرنا في أول القصة فنزلت الرخصة والإذن ناسخة لذلك، والتغليظ الأول لا يجوز عندنا أن يأكل أحد من مال أحد إلاَّ بإذنه، وإنما كان السبب ما ذكرنا. والله أعلم.
(فهذا ما عندنا من ذكر ما نسخ) من الطعام وقد تأول قوم تأويلاً أعوراً لا يصلح [إذ] قالوا: إنما هذا؛ لأن الأعمى لا يأكل طيب الطعام كما يأكله غيره ممن يبصر، فأباح الله لمن يأكل معه ذلك ولم يجعل فيه حرج، وليس هذا بشيء؛ لأن الله كان يقول: ?لَيْسَ عَلَى [32أ-أ] الْأَعْمَى حَرَجٌ?، ولوكان كما قالوا لقال: ليس على من أكل مع الأعمى حرج، وهذا لا يصلح في الكلام عند أهل المعرفة واللسان.

[ما نسخ من الشراب بالتحريم]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأما ما نسخ من الشراب بالتحريم فلا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافاً أنه محرم، وإنما اختلفوا في بعض التأويل وأنا ذاكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، قال الله تبارك وتعالى: ?تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا? [النحل: 67] فالسكر ما أسكر والرزق الحسن ما كان منه حلالاً مباحاً مثل: الزبيب والخل وغيرهما مما هو حل مباح، ثم قال عز وجل عند مسألة الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا? [البقرة: 219] يريد سبحانه في المنافع -أي: فيما ينتفع به من ثمنها، ثم قال عز وجل: ?وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا?؛ فزعم قوم أنها كانت تُشرب في تلك الأيام قبل نزول هذا وتباع، فلما أنزل الله هذا اجتنبها كثير من الناس، وقال آخرون: لم تكن تشرب في ذلك الوقت، ثم أنزل الله بعد ذلك: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ? [النساء: 43] فاختلف الناس في تأويل هذه الآية، فقال قوم: يعنى بالسكر: [91أ - ب] سكر الخمر، وقال آخرون: إنه سكر النوم وهذا [15أ- جـ] عندنا هو القول، فلما نزلت هذه الآية اجتنبها أيضاً كثير من الناس،

ثم أجمع الناس- بعد ما ذكرنا من ذلك فلا أعلم بينهم اختلافاً- أن جميع ما ذكرت من هذه الثلاث الآيات [ 32ب -أ] منسوخات نسخها الله (بما) أنزل من سورة المائدة وهو قوله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ? [المائدة:90-91] فعند نزول هاتين الآيتين انتهى جميع الناس عن الخمر والميسر.

[حقيقة الخمر والميسر والأنصاب]
فأما الخمر عندنا فهو: ما خامر العقل وأفسده -يكون- مما شاء من الأشياء.
وأما الميسر: فهو جميع ما يقامر به من النرد والشطرنج وغيرهما مما عُمل للقمار، وأما الأنصاب، فهي: ما كان يعبد أهل الجاهلية من الحجارة المنصوبة وغيرها مما ينصب للعبادة له وذلك قول الله تعالى:?مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ? يريد سبحانه وما ذبح للنصب، غير أن حروف الصفات تخلف بعضها بعضاً فقامت على مقام اللام، وقد ذكرت الحجة في ذلك في غير هذا الموضع.

[حقيقة الأزلام]
وأما الأزلام فالقداح التي كانوا يضربون بها في الجاهلية ويقسمون ويستعملونها في أمورهم [إذ] كانوا إذا أرادوا أمراً أخذوا سهمين منها، فكتبوا على أحدهما: اللهم أمرتني، والآخر اللهم نهيتني، ثم يدسهما عند رأسه، وكذلك كان يفعل من يضرب بهما فإذا أصبح ضرب بيده فأيهما وقع في يده عمل به وبما فيه من أمر أو نهي كذباً على الله، وقد زعم قوم: أن هذه الآية في المائدة إنما نزلت من أجل قوم من المسلمين شربوا خمراً، ثم قاتل بعضهم بعضاً، وأكثروا الرفث والجدال، فأنزل الله الآية الناسخة لذلك كله [33أ- أ ] بالتحريم كما ذكرنا، وقالوا: إنهم كانوا لا يشربون شيئاً منها إلاَّ بعد صلاة العشاء وعند وقت النوم، فشربوا ذلك في غير ذلك الوقت؛ فهذا عندي ليس بصحيح، غير أنا ذكرنا ما قد تكلم فيه الناس كيلا يحتج به محتج على من قرأ كتابنا هذا والحمد لله كثيراً.

12 / 16
ع
En
A+
A-