فكانت الأمور على هذا والناس يسألونه ويذهبون ويجيئون لما كان بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين [22أ-أ] من الموادعة والمعاهدة، ولما أمر الله به من ذلك قوله تعالى حين أنزل براءة وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطع تلك الموادعة والمعاهدة [81أ-ب] وأن يؤذنهم بالحرب بعد انقضاء المدة التي جعل لهم من الأربعة الأشهر أولها: يوم عرفة إلى عشر من ربيع الآخر، وذلك قول الله عز وجل: ?وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ? [التوبة: 3] ، وذلك يوم عرفة.

ومن ذلك اليوم وقع العدد؛ إذ كان يوم الإذن بالحرب، فجعل الله هذه الأربعة الأشهر وهي: عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر حداً لمن كان له عهد ونظرة لهم يسيحون في الأرض، أي: يذهبون حيث أحبوا، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً صلوات الله عليه وأمَّرهُ على الناس في تلك الحجة، وأمره أن يؤذن في الناس بالحرب، ويتلو عليهم العشر الآيات التي من أول براءة(*) ويجعل ذلك لمن له عهد ولمن ليس له عهد أجل انسلاخ الأشهر الحرم، وإنما سموها حُرم وليست الحرم التي ذكره الله تعالى حين آمنوا فيها، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذا انسلخت الأشهر الحرم أن يضع السيف، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام أن يؤذن الناس كافة بالقتال إن لم يؤمنوا، وكانت الأربعة الأشهر عندهم كما قلنا حرم حين أمنهم الله فيها، حتى انسلخت، ثم قال الله تعالى لنبيه: ?فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ? [التوبة:5] ، وأمر الله بنقض العهد الذي كان بينه وبين [22ب-أ] الناس جميعاً إلاَّ ما كان بينه وبين أهل مكة من قريش، فإنه قال له: ?إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ? [التوبة: 7] .
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليه: [81ب-ب] بلغني من حيث أثق [50/2] أن علياً عليه السلام بعث مؤذنين يوم الحج الأكبر: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر، فإذا مضت فإن الله بريء من المشركين ورسولُه.

قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فلم تدع براءة هدنة ولا موادعة ولا عهداً، ولا شيئاً مما ذكرنا من الآيات التي قلنا: إنها نسخت بما قلنا من الآي إلاَّ نسخته، ولم تدع حضاً على الجهاد ولا ترغيباً فيه، ولا إنباء عمن تكلم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء إلاَّ ذكرته، وهي الفاضحة كما سماها أهل المدينة، ولقد بلغني من حيث أثق [51/2] أن ابن عباس قال: ما زالت براءة تنزل ?وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ? ومنهم … حتى ظننا أنها لا تترك منَّا أحداً.
وبلغني من حيث أثق، عن المقداد بن الأسود عن أبي أيوب الأنصاري [52/2] أنهما قالا: قال الله تعالى: ?انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا? ولم نجد إلاَّ حفيفاً وثقيلاً، ولم يعذر الله أحداً من الجهاد.
وبلغني عن مجاهد وغيره [53/2] أن الجهاد لماَّ فرض قال الناس: فينا الثقيل وذو الحاجة والمشغول، فأنزل الله: ?انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا? [التوبة:41] ، ومما حرضه في غيرها، غير أنها أكثر سورة نزل فيها ذكر الجهاد والأمر به والفرض له. وقد بلغني من حيث أثق عن رسول الله [ 23أ-أ] صلى الله عليه وآله وسلم [11أ-جـ] [82أ-ب] أنه قال [54/2] : ((الجهاد ماض إلى يوم القيامة، لا يرده جور جائر ولا عدل عادل))، وقد قال بعض الناس أن قول الله تعالى: ?فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا? [النساء:71] ، منسوخة نسخها قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? [التوبة:122] .

[حكم الجهاد]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: ولا أدري ما هذا القول! الجهاد عندنا واجب على كل أحد إلاَّ على من لم يقدر عليه لعلة مانعة، وهذه الآية عندي ناسخة وليست بمنسوخة، أعني:?فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا? [النساء:71] هي الناسخة؛ لقوله تعالى:?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً? [التوبة: 122] ، وإنما كانت قبل النسخ لمن كان خائفاً للعدو على من يتركه وراءه من أهله في وقت ضعف الإسلام وبدئه، وفيها كلام وحجج لم يصلح ذكر ذلك في هذا الموضع كراهية التطويل.
وقال بعض الناس: إن الفرائض خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، والحج إلى البيت، وقال الأكثر من الناس: إنها ست: شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله.
والقول عندنا: إن الفرائض كثيرة إلاَّ أن منها ستة [ 23ب] مقدمة على غيرها من الفرائض التي هي دونها، وهي الست التي ذكرتها.

[القتال في الأشهر الحرم]
ومما اختلف فيه أيضاً في القتال في الأشهر الحرم؛ فزعم قوم أنه محرم وأنه لا يحل القتال فيها أبداً؛ لقول الله سبحانه: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ? [البقرة: 217] .
وقالوا: إن التفسير أن القتال فيه عند الله [82ب-ب] عظيم، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا?إلى قوله:?فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ? [التوبة: 36] .
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وهذا عندنا وعند أكثر العلماء منسوخ، نسخه قوله تعالى: ?فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ? [التوبة: 5] ، فقد افترض الله سبحانه جهاد من خالف أمره ورفض فرضه، ولم يشترط في ذلك شرطاً، ولم نجد له حداً، ولم يجعل له وقتاً إلاَّ الرجوع عما يسخطه وترك ما يغضبه، فهذا عندنا الحد الذي يجب به ترك من خالف أمر ربه.

[الأسارى]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فأما ما اختلف فيه من فدي الأسارى أوالمن عليهم أو القتل لهم، فنحن بعون الله مفسرون ذلك.
زعم قوم أنه لا يجوز قتل الأسارى، وأنه ليس فيهم غير المن أو الفداء، واحتجوا في ذلك بقول الله عز وجل: ?فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً? [محمد: 4] ، وزعم قوم آخرون أنها منسوخة نسخها قوله تعالى: ?فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ? [التوبة:5] ، وزعموا أنه لا يجوز الأسر إلاَّ بعد قوة من المؤمنين وضعف من الكافرين، واحتجوا بقول الله سبحانه:?حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً? [محمد:4] [24أ-أ].
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: والقول عندي أنه ليس في هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ، وإنما قالوا به مما قد ذكرت غير صواب، كل آية مما احتجوا بها عندي محكمة، والقول عندنا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مخيراً في جميع ذلك، وأنما كان له [11ب-جـ] من الاختيار [83أ-أ] كان واجباً لغيره من الأئمة عليهم السلام بعده إلى يومنا هذا، وأن للإمام الخيار في الأسارى، إن شاء قتل، وإن شاء فدى، وإن شاء شد الوثاق بالحبس وغيره، وكذلك له أن يفعل في الفئة الباغية، غير أن له في المشركين ما ليس في غيرهم من الباغين؛ لأن له في المشركين الاستعباد وليس له ذلك في الباغين ممن شهد الشهادتين، وحجتنا في ذلك ما أجمعت عليه العلماء جميعاً من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل يقتل ويفادي ويستعبد ويمن، من يوم بدر إلى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأربعة نافذة في جميع أحكامه وحروبه؛ قتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث.

ثم قدم المدينة فمنَّ على أبي العاص وغيره، وفادى أناساً آخرين ممن بقي معه من الأسارى، ثم كان أيضاً يوم نزل اليهود بعد المحاصرة لهم على حكم سعد بن معاذ منه أن استعبد وقتل ومنَّ على الزبير بن ملطا وذلك أن ثابت بن قيس بن شماس كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فمنَّ عليه حتى اختار هو القتل وكره الحياة بعد أصحابه، فقتل، وكذلك فعل في غزوة المريسيع ، وهي التي سبي فيها بني المصطلق من خزاعة [24ب-أ] ومنَّ عليهم ولم يقتل منهم أحداً، وكذلك يوم خيبر نفذت أحكامه بالمن والقتل، وكذلك يوم فتح مكة قتل هلال بن خطل، ومقبس بن صبابة وغيرهما ومَنَّ على الباقين، وقتل يوم خيبر ابن أبي الحقيق [83ب-ب] لما كتموا أموالهم ونقضوا ما كان أعطاهم من العهد، أمر بضرب أعناقهم ولم يَمُن على أحد منهم، وكذلك يوم حنين ضم جميع هوازن، وما كان معهم، فلما أن قدم وفدهم وكلمته السعدية التي قد كانت أرضعته أو رضع منها مَنَّ على جميعهم وأعطاهم من غنائم حنين المؤلفة، وهم يومئذ اثني عشر رجلاً(*) دخلوا في الإسلام كرهاً: أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وعيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي والمجاشع وحويطب بن عبد العزى بن لؤي بن الحارث بن هشام المخزومي وحكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزي، ومالك بن عوف النضري وصفوان بن أمية الجمحي، وعبد الرحمن بن يربوع من بني مالك، وقيس بن عدي السهمي وعباس بن مرداس السلمي والعلاء بن الحارث الثقفي أعطاهم من الإبل ما تألفهم به.
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: فهذا مما يشد قولنا ويصحح حجتنا على من خالفنا، وهذا ما في الأسارى عندنا وما به نأخذ فيهم.

[الغنائم والأنفال]
فأما الغنائم والأنفال: فقد اختلف فيها؛ قال قوم: إن المغانم هي الأنفال بعينها، وقال آخرون: إن المغانم سوى الأنفال وإن الآيتين [25أ- أ] محكمتان جميعاً، وقال الذين قالوا: إن الغنائم هي الأنفال: إن الأولى من الآيتين قول الله عز وجل: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ... ?الآية [الأنفال:1] ، ونسخ هذه الآية بقوله: ?وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [84أب] وَلِلرَّسُولِ...?الآية [الأنفال:41] ، ولم يجيء بحجة أحد من الفريقين.

[الفرق بين الأنفال والغنائم]
قال عبد الله عليه السلام: وأنا أقول: إن الأنفال غير الغنائم، وأنها عندي على ضربين، منها: سلب القتيل وماله وغير ذلك مما يحضر به المحاربون الحرب التي يحضرها الإمام، ومنها ما تأخذه السرايا والخيل المغيرة من أهل الحرب.
وقد بلغني أن المسلمين تكلموا في ذلك وسألوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عنه وأرادوا أن يجعلوا سبيله سبيل المغانم [ 12أ-جـ] تقسم كقسمتها، فاحتلج الله ذلك من أيدهم وجعله له ولرسوله؛ فقال سبحانه:?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ? فجعل الله أمر جميع ذلك إلى رسوله يفعل فيه ما أحب، إن شاء قسمه على المسلمين كافة، وإن شاء اختص به من أخذه وجعله لمن شاء وفيما شاء، وما كان له صلى الله عليه وآله وسلم من الفعل في ذلك فهو للأئمة من بعده، وإنما سميت الأنفال؛ لأنه نفل أي يفضل به بعض الناس على بعض؛ فهذا معنى الأنفال عندي والله أعلم.

[كتاب المواريث والوصايا]
قال عبد الله بن الحسين صلوات الله عليهما: وأمَّا ناسخ المواريث ومنسوخها، فلم أعلم اختلافاً في:

10 / 16
ع
En
A+
A-