وقال: ((قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [التوبه:130ـ المنافقون:14]، يقول: لعنهم الله فسمى اللعنة قتالا، وقال: ((قُتِلَ الإِنسَان ُمَا أَكْفَرَهُ)) [عبس:17]، يقول: لعن الإنسان ما أقل شكره، وقال لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)) [الأنفال:17]، فسمى فعل النبي، وفعل المؤمنين فعلا منه ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال: ((بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) [السجده:10]، وذكر المؤمنين فقال: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) [البقره:46]، وقال: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) وقال للمنافقين: ((فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) [التوبه:77]، وقال: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110].(1/26)
أما قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ)) [المؤمنون:33]، يقول: هم بالبعث هم كافرون، فسماه لقاء، وكذلك ذكر المؤمنين فقال: ((يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ)) [البقره:46]، يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، والظن منهم يقين، وكذلك ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء)) يقول: من كان يوقن أنه مبعوث ومحاسب ومجزي فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وقال: ((مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [العنكبوت:5]، يقول: من كان يوقن أنه مبعوث وإنما وعدوا وعد جاء عن الثواب والعقاب فسمى اللقاء أجلا، ولو كان إلى ما ذهب وهمك من لقاء ربه فكان يكون من كان يرجو لقاء ربه، والذين هم بلقاء ربهم كافرون بلفظ الرؤية، وليس كذلك، فاللقاء: الرؤية، واللقاء: البعث، ولا يعني به الرؤية لأن الأبصار لا تدركه، وكذلك ((إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)) يعني المنافقين، يقول: لا يزال النفاق في قلوبهم إلى يوم يبعثون، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.
قال: وأما قوله: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53]، وقوله عمن أوتي كتابه بيمينه: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) [الحاقه:20]، وقوله: ((يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)) [النور:25]، وقوله للمنافقين: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) [الأحزاب:10].
أما قوله: ((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)) [الكهف:53] فإنما يعني بالظن اليقين، يقول: إنهم أدخلوها.
وأما قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ)) يقول: إني أيقنت.(1/27)
وأما قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فليس ذلك الظن باليقين، ولكنه شك، والظن ظنان: ظن يقين، وظن شك، فما كان في كتاب الله من ذكر الظن في أمر المعاد فهو يقين، وما ذكر في أمر الدنيا فهو شك، وذلك لو كان إلى ما ذهب إليه وهمك لا يكون مؤمنا، وذلك لأن ما ذكر الله من الظن الذي سماه من المؤمنين في باب الآخرة لا يكون شكا، لأن من شك في شيء من الأشياء في كتاب الله المنزل كان مشركا أفهمت ما ذكرت لك من أمر الظن في الدنيا والآخرة؟ قال: نعم.
قال: وأما قوله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [الأنبياء:47]، فهو العدل تؤخذ به الخلائق، ويدين الله الخلق بعضهم من بعض، ويجزيهم بأعمالهم، والدين هاهنا قصاص.
وأما قوله لأهل الجنة ((فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [غافر:40]، فإن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(حقت مودتي لمن يزاور في الله، ويحاب في الله، ويباذل في الله، المتحابون في الله وجوههم من نور على منابر من نور عليهم ثياب من نور، قيل: من هؤلاء؟ قال: ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكنهم قوم تحابوا بحلال الله في الله على طاعة الله في دار الدنيا إذا عصي الله في دار الدنيا لا يزالون جلوسا على تلك حتى يفرغ من الحساب، ويدخلون الجنة لا يحاسبون).
قال: وأما قوله: ((مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)) و ((ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)) فإنما يعني بذلك قلة الحساب في الموازين، وكثرتها أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.(1/28)
قال: وقوله: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) [السجده:11]، وقوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، وقوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61]، وقوله: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ)) [التوبه:32]، ((ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) [النساء:97]، فإن الله تبارك وتعالى وتقدس يدبر الأمور كيف يشاء، ويوكل من خلقه ما يشاء بمن يشاء.
وأما قوله: ((يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) فإن الله وكله بخاصة من خلقه وملائكة معه.
وأما قوله: ((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) فإنما يعني به أنهم ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة، وكذلك قال: ((إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)) [الأنعام:38] يقول: ينشرون من بعد الموت فسمى النشور رجعة.
وأما قوله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) [الزمر:42]، فكذلك يتوفى الأنفس كيف يشاء على يدي من يشاء من خلقه.(1/29)
وأما قوله: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) [الأنعام:61]، فإن الله وكلهم بخاصة من خلقه تبارك وتعالى وتقدس، وليس كل العلم يستطيع صاحب العلم أن يفشيه إلى كل الناس، منه ما يطاق حمله، ومنه مالا يطاق حمله إلا من رزقه الله تعالى إطاقته من خاصة أوليائه، وإنما يكفيك وجميع المؤمنين أن يعلموا أن الله تبارك وتعالى وتقدس المميت المحيي، فإنه يتوفى الأنفس على يدي من يشاء من خلقه وملائكته أو غيرهم، بغير علاج منه تبارك وتعالى وتقدس أفهمتَ ما ذكرتُ لك؟ قال: نعم فرجتَ عني كلَّ غمٍّ، فَرَّجَ اللَّهُ عنك كلَّ غَمٍّ، وَكَشَفَ عنكَ كلَّ هَمٍّ، كما كشفت عني ما كان بي من الغم، وذلك من الله وحده لا شريك له، له الحمد والمرد والكبرياء، والطول لا اله إلا هو، وأشهد أنه الحق الدائم الذي ليس كمثله شيء، ولا يَنْزِلُ به ما يَنْزِلُ بخلقه، وأنَّه خالق الأشياء كلِّها، والقادرُ على الأشياء لامقدور عليه ولا رب غيره، ولا راد لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أنَّ محمد(1)[11]) عبدُهُ ورسولُهُ، وأُقِرُّ بِمَا جاء به من عند الله، وأنَّ الكتابَ حَقٌّ، يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضَاً، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد أن هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة ورضوانا إنَّه الوهاب، عَظَّمَ اللَّهُ أجرك يا أمير المؤمنين، وأمتع بك عامةَ المسلمين. انتهى.
---
__________
(1) 11]) ـ كذا في تفسير المصابيح، بالوقف على محمد، ولعله على لغة من يقف على المنصوب.(1/30)