الله تبارك وتعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَالْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) [الفتح:27]، ومنه ما قاله الله لمحمد أيضا: ((وَمَاجَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَة)) [الإسراء:60]، ومنه ما يبلغ رسل السماء رسل الأرض، ومنه ما يقذف في قلب الملك قذفا، وذلك ما قال جبريل عليه السلام لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما قذف الله في قلب الملك الذي فوق اسرافيل، أفهمت ما ذكرت لك، قال: نعم فرجت عني غما فرج الله عنك كل غم يا أمير المؤمنين.
وأمَّا قوله: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)) [سورة مريم:65]، فلا سمي له يعني لا مثل له، فإياك أن تقيس شيئا من كتاب الله برأيك حتى.... من العلماء، فإنَّه رُبَّ تَنْزِيْلٍ يُشْبِهُ كلامَ البشر، وفعلَ البشر، وتأويلُهُ لا يشبه كلام البشر، ولا فعل البشر، كما أنَّه ليس كمثله شييء من خلق، كذلك لاشيئ يشبهه من فعله ولا كلامه أفاعيل البشر ولا كلامهم أفهمتَ ما ذكرتُ؟ قال: نعم.
وأما قوله: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) [سبأ:34]، وقوله لأهل النار: ((وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) [آل عمران:77]، فكذلك، وكيف يعزب عن من خلق، ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الانعام:103]، وهو الشاهد لكل شيء تبارك وتعالى وتقدس.
وأما قوله: ((لاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ)) فإنما يعني بذلك لا يرحمهم ولا ينظر إليهم بخير، تقول العرب للرجل البر أو الملك: والله ما ينظر إلينا، يعنون إنك لا تصيبنا بخير فكذلك النظر من الله إلى خلقه في هاتين الآيتين ثواب أو عقاب، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.(1/21)
وأما قوله: ((إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ))[المطففين:15]، فإنما يعني أنهم عن ثواب ربهم وكرامته محرومون.
وأما قوله: ((أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)) [الملك:16]، وقوله: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ))[الحديد:3]، وقوله: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5]، وقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) وقوله: ((مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [المجادلة:7]، وقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]، وقوله: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14]، وقوله: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فكذلك الله تبارك وتعالى وتقدس من غير أن يكون ما سمى من كينونيته في خلقه ومع خلقه وعلى خلقه وفوق خلقه يجري ذلك منه على نحو ما يجري من المخلوقين وهو اللطيف وأعظم وأجل وأكبر من أن ينزل به شيء مما ينزل بخلقه هو الشاهد لكل شيء والوكيل على كل شيء، والمنشيء لكل شيء، والمدبر للأشياء كلها بلا علاج، ولا يفكر ولا حدث عليه ولامؤنة تعينه سبحانه وبحمده تبارك وتعالى وتقدس، فإذا جال شيء في صدرك من عظمة الله مما في القرآن من كينونته في الخلق ومع الخلق وفوق الخلق، وعلى الخلق، وتفكر في ديمومة الله وعظمته، ووسوست نفسك بشيء فقل: لا إله إلا الله فإن ذلك من وساوس الشيطان، وتفكر في ديمومة الله قبل أن يخلق خلقا سماء ولا أرضا، ولا عرشا ولا هواء، ولا شيئا من السماء والأرض فتنظر أنه الدائم الذي لا إحصاء لديمومته، وليس مع شيء، وذلك أنه الأول ابتدأ الأشياء لامن شيء فكذلك الله فعند ما خلق(1/22)
من الخلق كذا كان قبل أن يخلق الخلق ولم يتحول، ولا يحول ولا يأفل مع الآفلين فلا تجري عليه زيادة ولا نقصان، ولا يدرك ولا يعرف إلا بالديمومة، والأنات والسلطان والقدرة دائما سرمدا أبدا لا إحصاء لديمومته تبارك وتعالى وتقدس، ولا زوال، ابتدأ خلقه على غير مثال، وذلك أنه الأول فلا شيء معه، وخلق الأشياء لامن شيء.
وأما قوله: ((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) [الفجر:14]، فإنما يعني أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم، وهو فاعل ذلك، وقد تقول العرب للعبد أولمن يأمرونه فيستعصي: إنا لك بالمرصاد، يعنون إنا قادرون على جزائك، ونحن فاعلون ذلك.
وأمَّا قوله: ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [هود:56]، فإنما يعني أنه حق يجزي بالإحسان إحسانا والسيء سيئا، ويغفر لمن يشاء سبحانه وتعالى وتقدس أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم.(1/23)
وأما قوله: ((وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)) [الفجر:22]، وقوله: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] وقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ)) [البقره:210]، وقوله: ((إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) [الأنعام:158]، فذلك حق كما قال الله سبحانه، وليس جيئته كجيئة الخلق، وقد أعلمتك أنه رُبَّ شيء من كتاب الله تأويله غير تنزيله، ولا يشبه تأويله كلام البشر، ولا فعل البشر، وسأنبئك بطرف منه تكتفي به إن شاء الله تعالى، من قول إبراهيم عليه السلام حين قال: ((إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)) [الصافات:99]، فذهابه إلى ربه توجهه وعبادته واجتهاده وقراره إلى ربه، إلا أن تأويله غير تنزيله، وقال: ((أَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) [الزمر:6]، وقال: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)) [الحديد:25]، فسماه إنزالا، وإنزاله الأنعام خلقه إياها، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله.
وقال موسى ـ على محمد وموسى السلام ـ حين سقى لابنتي شعيب عليه السلام قال الله: ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) [القصص:24]، لما رزقتني من خير فقير.(1/24)
وأما قوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) [الأنعام:158]، فإنما تخير محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين والمشركين الذين لم يستجيبوا لي ولرسولي ((أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) معنى إتيانه: العذاب في دار الدنيا كما عذب القرون الأولى فهذا خبر يخبر نبيه عليه السلام، ثم قال: ((أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) أن تجيء هذه الآيات، وذلك قبل طلوع الشمس من المغرب، وإنما يكتفي ذووا الألباب والحجج، أو أولوا النهي أن يعلموا من قول الله ((وَجَاء رَبُّكَ)) ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الأنعام:94] أنه يكشف الغطاء، فترى ما وعدوا وأوعدوا وقال في آية أخرى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) [الحشر:2]، يعني بذلك أنه أرسل عليهم عذابا فذلك إياهم، وقال: ((فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ)) [النحل:26]، فإتيانه البنيان من القواعد إرساله العذاب عليهم، وقد قال فيما أنزل: ((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)) [الرعد:41]، يعني بذلك ما يهلك من القرون، وكذلك ما وصف من أمر الآخرة، تبارك وتعالى وتقدس، وتجري أموره في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، كما تجري أموره في الدنيا، لا يتعب ولا ينصب ولا يأفل مع الآفلين، فاكتف بما وصفت لك من ذلك مما تخيل في صدرك مما أنزل الله في كتابه وتسمى به من أفاعيله.
واعلم أن تأويل أفاعيله غير ما وجه لفعل البشر، لأنه لا ينزل به ما ينزل بالبشر أفهمت جميع ما ذكرت لك من جميع مافي كتاب الله مما تنزيله على نحو من كلام البشر هو أعظم وأجل، وأعز وأكبر جل ثناؤه من أن يكون كذلك وتعالى وتقدس.(1/25)