أما قوله: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) فإن ذلك في موطن ينتهي بأولياء الله إلى نهر يقال له الحيوان بعد ما يفرغ من الحساب فيغتسلون فيه ويشربون منه فتنضر وجوههم وهو الإشراق، ويذهب عنهم كل قذى فينظرون إلى ربهم متي يأذن لهم في دخول الجنة، ومنه يدخلون الجنة، وذلك قول الله حين أخبر عن تسليم الملائكة حيث يستقبلونهم في ذلك الموطن: ((سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) حيث يذهب عنهم كل قذى، وأيقنوا بالجنة، ولا يعني بالنظر الرؤية لأن الأبصار لا تدركه وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وذلك مدحة امتدح بها ربنا تبارك وتعالى وتقدس فأحق من لا تنقطع مدحته في الدنيا ولا في الآخرة الله رب العالمين(1)[8]).
__________
(1) ـ وفي كتاب شرح الأحكام للشيخ علي بن بلال رحمه الله تعالى أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في قوله تعالى ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)): ينتهي بأولياء الله إلى نهر يسمى الحيوان، فتنضر وجوههم وهو الإشراق، فينظرون إلى ربِّهم متى يأذن لهم في دخول الجنة، ولا يعني الرؤية؛ لأنَّ الأبصار لا تدركه كما قال ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))، وذلك مدحة امتدح بها تبارك وتعالى، فأحقّ من لا تنقطع مدحته في الدنيا والآخرة: اللَّهُ رَبُّ العالمين) انتهى من كتاب إعلام الأعلام بأدلة الأحكام [ط1/ص27].(1/16)


وقد قال موسى نبي الله على محمد وعلى موسى السلام: ((رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) [الأعراف:143] فأبدى ربنا تبارك وتقدس بعض آياته فتقطع الجبل وصار رميما، وخر موسى صعقا، يعني ميتا فتاب وأحياه الله ومنه: ((سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:146] بأنك لاتُرَى وإنما يعني أول المؤمنين من أمته، وقد سأل قوم موسى فقالوا: ((أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) [النساء:153] ومن سأله أو ظنه ظنا فخرج من الدنيا على ذلك فقد بريء من دين الله، إن الله تبارك وتعالى وتقدس لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا ينبغي أن تنقطع مدحته، وكذلك لا تأخذه سنة ولا نوم، وكذلك قال: ((وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ)) [الأنعام:14]، وكذلك قال: ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا)) [الجن:3] وقال: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ)) [الإسراء:111] مع ما ذكر من مدحته ولا يسع أحدا أن يشك في مدحته في الدنيا والآخرة.(1/17)


وأما قوله: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)) فإنما يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى التي لا يجاوزها خلق من خلق الله، فرأى محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه السلام في صورته هذه المرة، وقبلها مرة أخرى فذلك قوله سبحانه: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى))(1)[9])، وقد أعلم في آخر الآية أنَّه رأى غير ربِّه، حيث يقول: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) [النجم:17ـ18]، وذلك أن خلق جبريل عليه السلام آية عظيمة هو من الروحانيين الذين لا يعلم خلقهم وصورهم إلا الله رب العالمين.
وذكر عليٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((رأيت جبريل في صورة له ستة أجنحة جناحان ارتداهما وجناحان تزين بهما وجناح خارج في المشرق في الهواء، وجناح في المغرب في الهواء، قد ملأ الآفاق كلها)) سبحان الله وتعالى وجل ثناؤه.
__________
(1) ـ النجم: 23 ـ 25 تخريج الحديث في تفسير {ولقد رآه نزلة أخرى} أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان: 255: رقم 59 عن ابن مسعود في تفسير الآيات قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في جلة من ياقوت قد ملأ بين السماء والأرض ) وأخرجه أحمد 1/394، 418، والترمذي 3283 في تفسير سورة الجن، وابن خزيمة في التوحيد ص 204 والبيهقي في الأسماء والصفات ص 434، والحاكم 4/468، 469، وصححه، وأقره الذهبي والطيالسي 323 والسيوطي في الدر المنثور 6/123، وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال: رأى جبريل عليه السلام له ست ( ستة ) جناح وهكذا في البخاري في تفسير {فكان قاب قوسين أو أدنى} رقم 4856، والترمذي 3277، وغيرهم وله شواهد كثيرة، وفي مجمع البيان للطبرسي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل مرتين مرة في الأرض، ومرة في السماء، أما في الأرض ففي الأفق الأعلى.(1/18)


وأما قوله: ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا)) وقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) فأما ما بين أيديهم فأمر الآخرة، وأما ما خلفهم فأمر الدنيا ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ)) فلا تحيط الخلائق بالله علما هيهات هيهات، جعل على أبصار القلوب عن الغطاء فلا وهم يناله، ولاقلب ينعته ولا يخطر على بال، ولا يعرف إلا بالآيات والسلطان والقدرة و الجلال والعظمة كما وصف نفسه في القرآن ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] و((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103] ((الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)) ((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى)) خلق الأشياء كلها فليس شيء من ما يشاء الإله تبارك وتعالى وتقدس، أفهمت ما ذكرت لك؟ قال: نعم، فرجت عني فرج الله عنك كل غم وحللت عني عقدة فعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
قال: وأما قوله: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء))[الشورى:105] وقوله: ((وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) وقوله: ((وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا)) [الاعراف:22]، وقوله: ((وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى)) [الشعراء:10] وقوله: ((يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقره:35] وقوله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائده:41] و((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ)) [ص:75].(1/19)


أما قوله:((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الشورى:51]، فهو كما قال الله، وليس بكائن وراء حجاب، وقد يرسل الرسول بوحي منه إلى رسل السماء، فتبلغ رسل السماء رسل الأرض، فيتفهمه رسل الأرض من دون مشافهة رسل السماء، وقد يخلق الكلام بينه وبين رسل السماء من غير مشافهة رسل السماء لأحد من خلقه، وقد قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل عليه السلام: (كيف تأخذ الوحي من رب العالمين؟ قال: آخذه من إسرافيل، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين يأخذ اسرافيل؟ قال: يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من أين يأخذه ذلك الملك؟ فقال: يقذف في قلبه قذفا، فهو كلام الله) (1)[10]) فكيف ما وصفت لك من كلام الله، فإن كلام الله ليس بنحو واحد، ولا يجري على نحو واحد منه ما يجيء في المنام، وذلك قول إبراهيم عليه السلام حيث قال: ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)) [الصافات:102]، ومنه ما قال
__________
(1) 10]) ـ الحديث أخرجه الإمام الهادي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب مسائل الرازي مخطوط، وعنه الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام في كتاب حقائق المعرفة (خ) ونص الحديث وقد سأله الرازي: كيف يأخذ جبريل الوحي من الله؟ وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه حتى يفهمه؟ فقال عليه السلام: اعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال: آخذه من ملك فوقي، ويأخذه الملك من ملك فوقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل عليه السلام: يلقى في قلبه إلقاء، ويلهمه إلهاما) انظر حقائق المعرفة خ.(1/20)

4 / 7
ع
En
A+
A-