وقال سبحانه مايدل به على أن الكفر ضد الشكر ، وأن شكره إنما يكون بطاعته وعبادتهم إياه ، وأن كفرهم إنما يكون بركوب معاصيه ، ومخالفة عبادتهم إياه لاأنهم يقولون بألسنتهم : إنهم قد أقروا وشكروا ، ولاإنهم قد جحدوا وكفروا قال الله سبحانه :?اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور? أي اشكروني ياآل داود بعملكم مافرضت عليكم بطاعتكم إياي في أمري ونهيي.
وقال جل ذكره واصفا قول سليمان عليه السلام :?هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر? الآية وقال عزوجل :?لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد? وقال سبحانه :?اذكروني أذكركم واشكروا لي ولاتكفرون? في امثال لهذا تكثر.
ومما اكد سبحانه بيانه في ذلك بكتابه المبين الشفاء للمؤمنين ، ماأمر به عباده من ذكر نعمه عليهم وذلك فكثير في كتابه المبين.
ومعنى ذكرهم لنعمه أن يذكروها فيشكروها بالعمل له بطاعته فيما أمر به ونهى عنه ، لاأنهم يذكرونها فقط فلا ينسونها ، وإن كانوا عاملين بما يسخطه ، فمن عمل بمعاصيه فهو غير ذاكر لنعمه.
وقال سبحانه في ذلك :?يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم وأوفوا بعهدي اوف بعهدكم وإياي فارهبون? (أي اعملوا بما عهدت اليكم أوف بما ضمنت لكم من الجزاء على طاعتكم) ?وإياي فارهبون? أي خافوا وعيدي وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم من التوراة والكتب الأولى يقول: آمنوا بالقرآن ?ولاتكونوا أول كافر به ? أ و لاتكونوا أول من يجحد القرآن ويستره, وقد تقدم اليكم ذكره في كتبكم الأولى ?ولاتشتروا بآياتي ثمنا قليلا ? أي ولا تبيعوا ماقد تبين لكم من الحق في القرآن, بالثمن القليل من اتباع الهوى وتقليد الرؤساء ?واياي فاتقون? أي فاحذرون وتوقوا عقابي وسخطي عند عصيانكم اياي 0(1/26)


وقال جل ذكره: ?يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين? إلى قوله: ?ولاهم ينصرون? وقال سبحانه: ?وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ? إلى قوله :?فإن الله لغني حميد? .
وقال عزوجل لأهل ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمرهم به من طاعته وأداء فرائضه بعد ما ذكر من أمره ونهيه في النكاح والطلاق: ?ولاتمسكوهن ضرارا لتعتدوا ? إلى قوله: ?إن الله بكل شيءعليم? وقال جل ذكره بعد أن عدد كثيرا من نعمه في سورة النحل:?والله فضل بعضكم على بعض في الرزق? إلى قوله: ?أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا? إلى قوله :?وبنعمة الله هم يكفرون? فمرة يسمي جل ذكره ترك طاعته جحدا, ومرة كفرا, لاستواء الكلمتين في المعنى, وجعل بالباطل إيمانا، كما جعل بالحق إيمانا, وهذا فإيمان الإقرار, لاإيمان النفس من سخط الله وعقابه وقال سبحانه في آل عمران: ?واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا? إلى قوله: ?لعلكم تهتدون? فذكَّرهم بعض نعمه عليهم, ثم قال: ?لعلكم تهتدون? فتطيعون ولا تضلون فتعصون.
وقال جل ذكره في النساء ?مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما? معنى الإيمان هاهنا, إيمان النفس من سخط الله ووعيده بطاعته
ثم بين سبحانه في سورة (سبحان) فيما لولم أذكر غيره فيما عزوت لكفى فقال: ?ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا? يريد من أصناف الحيوانات والموات غير الملائكة المقربين.
وقال? وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا....? إلى قوله: ?من هو أهدى سبيلا? فوصف سبحانه مع ذكره لنعمه العمل الذي جعله شكرا عنها, كما قال?إعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور? فجعل عملهم بطاعته شكرا على نعمه, وتركهم العمل بطاعته كفرا منهم لنعمه.(1/27)


وقال في مثل ذلك ?رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي....? إلى قوله: ?في عبادك الصالحين? فنسأل الله التوفيق بشكر نعمه بالعمل الصالح والإنتهاء عن معاصيه ، وهذا فبين والحمد لله.
ثم قال عزوجل: ?هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم? فاعترف بنعم الله عليه, ووصف بأن الله ابتلاه, ليعلم شكره عليها بطاعته, أو كفره إياها بمعاصيه، وقال سبحانه في العنكبوت: ?أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون? وهذا في القرآن بَيِّن كثير ، وفي اللغة العربية، ولايخفى عمن عرف اللغة العربية، فمن قلة معرفتها أتي أهل العلم ، والحمد لله أولا وآخرا.
واعلم هداك الله: أن الشيطان اللعين الرجيم ، لم يكن كفره بجحد منه لربه، ولاعدل به سواه، وإنما كان كفره وجحده من طريق ترك طاعته ، وأمره إياه بالسجود ، واستكباره على آدم لا على ربه إذ قال:?أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين? فكل عاص لربه كافر كإبليس ، وإن أكثر الناس الآن ليأتون من الإستكبار الذي كفَّر الله به ابليس ، وأخرجه من الجنة ولعنه بأكثر مما جاء به ابليس ، ولايرون عليهم في ذلك شيئا ولايعظم لديهم ، فيقول أحدهم للآخر: أتكلمني وتساويني في المجلس والقول ، وأنا ابن فلان القائد, أوابن فلان الملك الجبار المعاند ، أو ابن فلان المؤسر الغني ، وأنت ابن فلان الفقير المسكين ، أوابن فلان المؤمن الصانع بيده المكتسب ببدنه ، وماأشبه ذلك ، ولاتراهم يفخرون بأب كان نبيئا ولاورعا ولابرا ولاتقيا ، ولامؤمنا رضيا زكيا ، ولابأنهم في أنفسهم صالحون ولربهم مرضون مطيعون ، ولمعاصيه مجتنبون ومنها حذرون ، وهذا أكبر من استكبار الشيطان أومثله.(1/28)


درجات الكفر والجحد
غير أن الكفر والجحد والكبر يختلف ، فبعضه أعظم وأجل اثما وعقابا من بعض فمنه مايزيل عن الملة فيوجب سفك الدماء ، وإحلال المال والسبي, وبعضه يوجب الحدود التي ذكرها الله ، وليس ماأوجب الحدود مزيلا عن الملة ؛ لأنه لايجتمع وجوب سفك الدم والسبي وغنيمة المال واقامة الحدود في حال واحدة.
ومنها : مايوجب الأدب والزجر اللذين جاءت بهما السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولاينبغي أن يطلق لمسلم أن يقول لمسلم مثله : ياكافر وياجاحد عند معصية تكون منه فيسبق الى الأفهام والعقول أنه أراد الكفر والجحد المزيلين عن الملة ، ولم يرد الكفر بركوب معاصي الله وترك شكر نعمه ، وإن كان هذا الإسم واقعا على جميع الذنوب في اللغة والعقل.
وهذا بعض مايحضر مما روينا من الحديث في ذكر نعم الله عزوجل.
قال: حدثنا بشر بن عبدالوهاب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، قال: حدثنا سفيان الثوري عن رجل عن مجاهد :?وذكرهم بأيام الله? قال: أيام نعمه .
وبهذا الإسناد عن مجاهد :?وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم? قال : نعمة من ربكم عظيمة .
قال: حدثنا بشر بن عبدالوهاب ، قال: حدثنا وكيع ، قال: حدثنا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن ابي العالية قال: قول الله :?وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم? الى قوله:?ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون? قال: الكفر بالنعمة .
قال: حدثنا بشر قال: حدثنا وكيع ، قال: حدثنا مهدي بن ميمون عن شعيب بن الحبحاب عن الحسن قال: ?إن الإنسان لربه لكنود? قال: الكفور الذي يعد المصائب وينسى نعمة ربه .
قال: وحدثنا بشر قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش ، وسفيان عن زبيد عن مرة عن عبدالله ، قال: وحدثنا بشر: قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا اسرائيل عن ابي اسحاق عن عمرو بن ميمون :?اتقوا الله حق تقاته? قال: يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى.(1/29)


باب في وصف الكفر من كتاب الله ومعانيه وأوصافه
اعلم هداك الله أن للكفر أوصافا ومعاني ، فالفسق والظلم والإجرام وغير ذلك من أسماء المعاصي من أوصاف الكفر ومعانيه وراجع إليه ؛ لأن ذلك أجمع من الكفر لنعم الله بركوب معاصيه.
فالفسق في لغة العرب : الخروج من الشيء ، قال الله جل ذكره: ?إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه? أي خرج عن أمر ربه وتركه وعصى ربه.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :(اقتلوا الفويسقة فإنها توهي السقاء وتضرم البيت على أهله) .
ومعنى قوله :(الفويسقة) تصغير: الفارة الفاسقة لأنها صغيرة ، وفسقها فكثرة خروجها من جحرها ورجوعها اليه ، وقد أعلم الله سبحانه أن الفاسق كافر في محكم كتابه ، فمن ذلك قوله في الأنعام :?والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون? والمكذب بآيات الله فكافر بإجماع.
وقوله جل ذكره يصف المنافقين: ?استغفر لهم أولاتستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة? الى قوله :?والله لايهدي القوم الفاسقين? .
وقوله سبحانه في سورة النور :?يعبدونني لايشركون بي شيئا? الى قوله :?فأولئك هم الفاسقون? فأعلم أن الكافر هو الفاسق.
وقال جل ذكره في سورة براءة :?إن المنافقين هم الفاسقون? والمنافقون كفار بإجماع وإن كانوا من أهل الملة.
ووصف الله ابليس بأشنع أسماء الكفر وصفاته فقال :?إلا ابليس كان من الجن ففسق عن امر ربه? الآية .
وقال: ?سأوريكم دار الفاسقين? يعني جهنم ?وإن جهنم لمحيطة بالكافرين? فدل على أن الفاسقين هم الكافرون التي جهنم دارهم ومحيطة بهم.
فهذا بعض مادل جل ذكره به أن الظالمين كافرون قال في سورة البقرة :?ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولاخلة ولاشفاعة والكافرون هم الظالمون? وهذه فمخاطبة لمن زعم أنه مؤمن في تركهم الإنفاق في سبيل الله وعصيانهم لله، ومخالفتهم أمره.(1/30)

6 / 20
ع
En
A+
A-