فأعلم جل ذكره أن المؤمن لنفسه من سخطه ووعيده من عباده بفعله طاعاته إذا أنزلت سورة ازداد بفعل ما فرض الله فيها وأحدثه من فرض عليه ، وإقرار بها إيمانا لنفسه من سخطه وعذابه ، وأن المريض القلب المصر على معاصيه يزداد رجسا إلى رجسه ، بخلافه ما أنزل الله ويموت على ضلاله كافرا.
فنحن نقول : إن الإيمان يزيد كما وصف الحكيم العليم ، ولا نقول : ينقص إذ لم يصف الحكيم العليم أنه ينقص ؛ ولأنه لا يجوز أن يقال : ينقص إلا عند ما يرتكب العبد معصية لله سبحانه تسخطه عليه ، وتوجب وعيده له ، وهذه حال قد أعلمنا الله فيها أن عمل عبده يبطل كله ويحبط ، فليس لذكر النقص معنى مع بطلان الكل.(1/16)
فأما دعاء الله جل ذكره المنافقين الذين قد أجمعت الأمة على كفرهم واستحقاقهم وعيد الله ولم يخرجوهم من أحكام أهل الملة بقوله جل ذكره :?يا أيها الذين آمنوا? كما قال لعبد الله بن أبي وأضرابه :?يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون? إلى قوله تعالى : ?لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين? فإنه دعاهم بالصفة لما انتحلوه كأنه قال سبحانه : يا أيها الذين زعموا أنهم آمنوا ، وليس ذلك الذي دعاهم به موجبا لهم أن يكونوا مؤمنين أنفسهم من سخط الله وعقابه ، ولكن يوجب أن يكون معهم إقرار بالإيمان باللسان لا ينفعهم ، ألا ترى أنه جل ذكره وصف أنهم يسألون الرجعة عند معاينة الموت ، والمؤمن لا يسأل الرجعة عند الموت ، بل يكون بما تلقاه به الملائكة من البشرى فرحا مسرورا ، وإنما يكون اسم الإيمان الحق واجبا لمن دعاه الله فقال: يا مؤمن ، فهذا يكون دعاء بحقيقة الإسم لا بالصفة ، وقد بينا هذا في كتابنا الكبير في الإيمان ، وأوضحناه إن شاء الله ، وكذلك كل من أصر على شيء من كبائر معاصي الله وذنوبه ، التي تكتب عليه في كل يوم وساعة تزيد ولا تنقص إلا جملة ، قياسا على ما تقدم وصفنا إياه من زيادة الإيمان.
وإني لأكثر التعجب من قوم يسمعون الله سبحانه يصف في محكم كتابه الإيمان بالزيادة ويقولون هم : لا يزيد.(1/17)
واعلم هداك الله أن التقوى والإحسان والإسلام والإصلاح من أوصاف الإيمان ومعانيه ، التي يؤمن العبد بها نفسه من سخط الله وعقابه ، إذا أتى مع ذلك بجميع ما فرض الله عليه ، فيكون قد آمن نفسه ، ألا تسمع إلى قول الحكيم العليم :?قالت الإعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم? الآية فأعلمهم أنهم لم يكن منهم ما يستوجب إيمان أنفسهم ، ولكن كان منهم التسليم وإظهار قبول الحق الذي لا ينفع في الآخرة وينفع في الدنيا إذا قارنه معصية لله كبيرة وقد يكون العبد متقيا لله في بعض الأمور ومسلما وبرا ومحسنا ، ويكون مع ذلك غير متوق شيئا آخر ، ولا بر ولا محسن في غير ما أحسن فيه ، فيجوز أن يسمى فيما اتقى وأسلم وأحسن باسم ما فعل ويكون ذلك نافعا له مع إصراره على معاصي الله ولا يكون مستحقا اسم الإيمان الممدوح أهله الموجب رضوان الله ؛ لأنه قد كان منه مع تقواه وبره في إحسانه ما لم يؤمن به نفسه من سخط الله ووعيده ، ولم يكن منه تقوى لله ولا بر ولا إحسان فيه ولا يكون متقيا لله غير متق له, ولا مسخطا لله غير مسخط له ، ولا محسنا عند الله غير محسن عنده ، مستوجبا للجنة وغير مستوجب لها ومستوجبا للنار وغير مستوجب لها في حال واحدة.
وقد يجوز أن يقال لهؤلاء جميعا : إنهم متقون ومحسنون ومقرون ومؤمنون فيما كان منهم من تقوى وإقرار وإحسان ، تقوى وإقرارا وإحسانا لا ينفعهم ، مع ما قارنه من كبائر معاصيهم لله المحبطة كل عمل صالح إذا أصر عليها فاعلها ولو لم يكن في هذا إلا شهادة الله بنص كتابه أن المؤمن لا يستوي هو والفاسق لكفى وأغنى ، وذلك قوله جل ذكره :?أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون? وقوله:?وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون? ونحن نفسر معنى الآية في باب الشرك إن شاء الله.(1/18)
وقوله تعالى :?الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين? وقد مدح جل ذكره نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ?بالمؤمنين رؤف رحيم? فلو كانوا مؤمنين حقا لم ينه أن تأخذ المؤمنين بهم رأفة في دين الله.
وفي هذا القدر بيان لمن نصح نفسه ولم يغرها ويوطئها عشوة ويغر المستضعفين ويسهل لنفسه ولهم طريق معاصي الله إن شاء الله.(1/19)
ذكر في تصديق ما قلت به في الإيمان شيئا من الحديث الصحيح
(قال الإمام الناصر للحق عليه السلام)(5) وأنا ذاكر في تصديق ما قلت به في الإيمان شيئا من الحديث الصحيح يسيرا مما يحضر ويذكر وبالله أستعين وإياه أعبد وأحمد وصلى الله على النبي محمد وآله أجمعين وسلم :
ما ذكر من الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لا يحتاج إلى ذكر أسانيده وطرقه ، ولكنا نفسر معناه: قد يكون أكثر المقرين بالشهادتين ، المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزنون مع إقرارهم الذي هو في اللغة إيمان ، ومحال أن يقول عليه السلام : لا يكون لما قد يكون ، ولكنه أراد به لا يؤمن الزاني نفسه من سخط الله وأليم عقابه إن شاء الله.
قال : حدثنا محمد بن منصور المرادي قال :حدثنا عبد الله بن داهر عن عمرو بن جميع عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من ذكر الله ، وذكر الله أفضل من الصدقة والصدقة أفضل من الصيام, والصيام جنة من النار) .
ثم قال:(لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة).
قال الحسن بن علي [الناصر] : ليس قول الله سبحانه: ?ولذكر الله أكبر? من هذا. ولكن معنى قوله :?إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر? أي ذكر الله لكم بجزائه وثوابه أكبر من ذكركم إياه في صلاتكم.
قال حدثنا : محمد بن منصور ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال : حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام قال :حدثنا شيخ من أشياخنا (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) .(1/20)