فأما الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بالقلب واللسان ، النافع المرضي لله الممدوح : فهو ماد خل في جملة الإيمان الذي ذكرناه أولا ، وهو الإيمان الذي ذكره إبراهيم عليه السلام بقوله:?الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون? الذي يؤمن به العبد نفسه من سخط الله ووعيده ، وذلك أن يقر العبد بالله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبكل ما جاء به الرسل من عند الله ويطيع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما أمرا به ، وينتهي ويزدجر عن كل ما نهيا وزجرا عنه ، والله مشكور وبما هو أهله مذكور
ونزيد على ما وصفناه في الدلالة على الإيمان ، فإن الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بالقلب واللسان ، إنما ينفع إذا أتى العبد بجميع ما فرض الله عليه معه وازدجر عن جميع ماز جره الله عنه ، فيكون حينئذ مستوجبا أن يقال :إنه مؤمن حقا لأنه قد يكون قد جاء بما آمن به نفسه من سخط الله وعقابه ، قال الله جل ذكره : ?ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين? ويقول جل ذكره:?ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم...? إلى قوله :?ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون? فسبحان الله ما أوضح ما تكون في هؤلاء الآيات ، بأن الإيمان هو الإقرار بالقلب واللسان ، لا يكون إيمانا نافعا مؤمنا من سخطه ووعيده مع المولي عن طاعته وطاعة رسوله ، وترك العمل بجميع فرائضه والإجتناب لجميع ماز جر عنه مع ما قد دل عليه جل ذكره من أن العبد إذا عصاه أحبط عصيانُه صَالِحَ عمله بجوارحه ولسانه ، فإن تاب رد عليه فصار ما هاهنا أيضا إيمان هو إقرار باللسان لا ينفع مع المعصية لله ، وينفع مع التوبة والإخلاص ، والله معبود محمود.(1/11)
ويكفي في بيان ذلك من عقل وتدبر القرآن ، ما أنزل عليه في الخيرين أبي بكر وعمر بقوله تعالى :?يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون? فإذا كان مثل عمل أبى بكر وعمر وإقرارهما الذي هو إيمانهما يحبط ويبطل إذ رفعا أصواتهما فوق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مع مكانهما في الإسلام فما يكون حال سواهما.
قال : حدثنا بشر بن عبد الوهاب بدمشق قال : حدثنا وكيع بن الجراح قال: حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة :(كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر لما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفد بني تميم أشار احدهما بالأقرع بن حابس الحنظلي أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر بغيره فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي فقال عمر: ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت ?يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم? قال ابن أبى مليكة : قال (ابن) الزبير ـ ولم يذكر ذلك عن أبيه : ذكر عمر بعد ذلك كان إذا حدَّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحديث حدثه كأخي السِّرٍار لا يسمعه حتى يستفهمه من خفيض صوته.
وقد وصف الحكيم العليم في أماكن من كتابه أن من عصاه وعصى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو أصر على ذلك أبطل عصيانُه ما تقدم من صالح عمله وأحبطه.
فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى :?يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى? الآية.
ومن ذلك مالا يكون شيء أبين منه وهو قوله تعالى :?يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم?.(1/12)
قال حدثنا بشر بن عبد الوهاب ، قال حدثنا وكيع بن الجراح ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت ?أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم?.
فأعلم الله سبحانه بنص كتابه مصرحا أن من عصاه وعصى رسوله بطل عمله.
وأعلم في مكان آخر أن من أحبط عمله بمعصيته إياه إذا تاب رد عليه ما بطل من عمله ، وجعل بدل سيئاته حسنات فقال:?إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما? وكذلك حكم سبحانه العدل الرحيم بعباده في من عصاه دهرا طويلا ثم تاب فقال: ?إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين?.
فأعلمنا أن التوبة والعمل الصالح يبطلان ما تقدمهما من المعاصي له ، كما أعلمنا أن المعاصي تبطل ما تقدمهما من الطاعات له.
قال: حدثنا وكيع بن الجراح ، قال: حدثنا الأعمش عن أبى وائل عن عبد الله قال: قلنا :يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال: ( من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء أخذ بالأول والآخر) وهذا فبين واضح والحمد لله رب العالمين.
وإني لأكثر من التعجب من قوم لهم عقول وتمييز فهم يسمعون الله سبحانه يقول لمن عصاه وعصى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم :?وما أولئك بالمؤمنين? فيقولون هم : بلى بل هم مؤمنون إيمانهم كإيمان جبريل وميكائل فالله المستعان !!.(1/13)
فالإيمان الحق الممدوح وأهله النافع فهو إيمان الإنسان نفسه من سخط الله، ومما أوعد من عصاه من عذابه وأليم عقابه ، تَوَقِّيْه ما نهاه عنه واجتنابه ، وفعله ما أمره الله ورسوله به واكتسابه ، ويدخل في ذلك الإقرار والتصديق بالقلب واللسان ،جميع أعمال الجوارح والأركان ، فمن أطاع الله ورسوله ولم يخالفهما فهو من المؤمنين حقا ومن المتقين ؛ لأن من اتقى مولاه لم يفعل ما يسخطه ويخالفه متعمدا ، وهو يعلم أنه يراه ولا يخفى عليه عمله ، وهذا فيما يصح في العقول والأسماع يكون مستخفا بمولاه قليل المبالاة بوعيده إياه ، الذي لا يبلغه وعيد الأليم الشديد ، مع إعلامه أنه لا يخلف وعيده ولا يبدل قوله ، وإنه الصادق العدل في حكمه ، الموفي بوعده ووعيده وصدقه في وعده لا خلاف فيه.
ويقول سبحانه في صدقه في وعيده :?قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد? ويقول جل ذكره :?واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور? ويقول عز وجل :?ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون? في أشباه لذلك ، يُعْلِم الله سبحانه أنه لا يخلف وعيده ، والله المستعان.(1/14)
ومعنى قوله تقدس ذكره :?ولن يخلف الله وعده? أي : لن يخلف الله وعيده لأنهم استعجلوه بالعذاب الذي هو وعيده ، والعرب تقول: وعدته الشر وأوعدته: بمعنى واحد ،ولا تقول في الخير إلا وعدته فقط, ويحقق ذلك قول الله عز وجل ذكره :?قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير? وقد قال بعض الناس :إن الإيمان مجرد لا يزيد ولا ينقص, وقال آخرون بأن الإيمان يزيد وينقص ما شاء على أن كل ما تهيأ فيه الزيادة تهيأ فيه النقص ، عن غير مثال من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولاعن الله سبحانه في ذلك ووجدت القرآن يدل على الزيادة وينطق بها ، ولم أجده يدل على النقص ولا ينطق به ، ومن أخذ بالقرآن فقال بما فيه فلج وفاز وأخذ بالوثيقة والإحتراز ، ومع ذلك فإن الإيمان على ما تقدم وصفنا أعمال العباد بما فرض الله عليهم التي يؤمنون بها أنفسهم من سخط الله ووعيده ، وأليم عقابه وعذابه.
أول تلك الأعمال : الإقرار والتصديق بالقلب واللسان ، فكل ما عمله العبد فهو مكتوب له عند الله مادام حيا عاملا ، ومعنى مكتوب : محفوظ ، قال الشاعر :
فعمل العبد يزيد كل يوم ولا ينقص ، إلا أن يرتكب كبيرة من معاصي الله فيكون غير مؤمن نفسه من سخط الله ووعيده ، ويحبط عمله كله ، فإن تاب بعد ذلك وأناب وأطاع الله ورسوله في جميع ما أمر به ونهى عنه ، أحبط الله سبحانه ما تقدم من معاصيه فأبطلها ، ورد عليه ما كان حبط من حسناته كما قلناه قبل.
وقد وصف الحكيم العليم في كتابه المبين أن الإيمان يزيد, ولم يصف أنه ينقص فقال الله سبحانه :?وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون? في أشباه لذلك يدل الله جل ذكره بها على أن الإيمان يزيد.(1/15)