اللهم فأعطه في عبادك أشرف الوسائل وخصه بأرفع الدرج وأعلى الفضائل وأنزله لديك أحب المنازل ، واجعل عاقبته أفضل عواقب جميع الخلق ،كما ابتدأته بالتوفيق منك للحق ، والقول عليك بالصدق ، واجعلني بوسيلته ورحمتك ، ممن يكون معه في المقام المحمود الذي وعدته ، وبه على جميع الخلائق قدمته وآثرته ، إنك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد.
اللهم واجعلني له من المتبعين ، ولحذوه من الممتثلين ، ولطريقه من السالكين ولسنته من المقتدين ، ولعظمتك وجلالك ، وعز سلطانك من الأذلاء الخاشعين الباخعين الخاضعين ، ولحقك من العارفين ، وبوحدانيتك وتسبيحك عن الأشباه والأنداد من المقرين ، ولعظيم نعمك علي وغمر فضلك إياي ، وجميل بلائك لدي من الشاكرين ، إذ جعلته لي والدا وأبا ، وإلى كل شرف ورفعة وخير هاديا وسببا وجعلت عنصره لي عنصرا ونسبا ، وجعلتني به إليك متوسلا متقربا ، أدعوك حامدا لك رغبا ورهبا وأفزع إليك في كل ما كان بغية لي ومطلبا ، حتى تنشرني بعد فناء الأجسام والأعراض والأجساد ، وتحشرني إذا حشرت خلقك يوم التناد وقيام الأشهاد ، كل حزب مع حزبه ، وكل محب مع محبه ، وكل قرين مع قرينه ، وكل معان مع معينه ، في زمرته وأسرته ، ونجباء ذريته ، الذين أخلصوا لك الطاعة وله ، في مرافقة النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، والحمد لله رب العالمين.(1/6)
باب في وصف حقيقة الإيمان
اختلف الناس في ماهية الإيمان ، الذي يصل به العبد من مولاه الرحيم الرحمن إلى الخير والكرامة والإحسان ، ويتباعد به من التخليد في النيران ، فتكلموا فيه على غير معرفة بحقيقته ولا إيقان ، وأنا فمستغن عن وصف اختلافهم في ذلك ، بما أبينه من الحق المعروف في لغة العرب ، وفي القرآن إن شاء الله.
إعلم هداك الله أن أعظم الإيمان قدرا ، ومنزلة عند الله وأجرا ، وأجمعه للخيرات وأعمه نفعا وأرضاه لله جل ذكره ، هو أن يؤمن الإنسان نفسه من سخط الله ووعيده ، ويوجب له رضوانه وما وعد من النعيم في الجنة وتخليده ، بإتباعه وفعله جميع ما فرض الله عليه واجتنابه كل مازجره ونهاه عنه ، وقد يدخل في هذا الإيمان إيمان الإقرار والتصديق المحمود ، باللسان والقلب وغيره من أعمال جميع الجوارح المرضية لله ، تقول العرب: آمن فلان نفسه ، وآمن غيره أن يظلمه ، فهو يؤمن نفسه ويؤمن غيره أمنا وأمانا وإيمانا ، وبهذا الإيمان سمى الله سبحانه نفسه فقال: ?المؤمن المهيمن? فعنى بالمؤمن المؤمن عباده أن يظلمهم ، والمهيمن الشهيد عليهم بأعمالهم ولهم ، قال جل ذكره في تبيان أن المهيمنَ : الشهيدُ:?وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه? أي : وشهيدا عليه ، فهذا هو الإيمان الحق الذي وصفه العليم الحكيم ومدح أهله فقال:?يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين? معنى ذلك وإلا فلستم مؤمنين لأنفسكم من عذاب الله ، ثم فَسَّرَ مَن المؤمنين لأنفسهم من عذابه ؟ فقال: ?إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم? فدل جل ذكره على أن في عباده مؤمنين بالإقرار ، إيمانهم باطل لا ينفعهم ،(1/7)
وهم الذين قرنوا به معصيته فأحبطوه ، ولم يبق جل ذكره شيئا مما يؤمن به العبد نفسه من سخطه وعذابه ، مما أمره به وفرضه ونهى عنه وواعد عليه ، إلا وقد ذكره مجملا بقوله :?وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين? وذكر بعضه مفصلا
والإيمان الحق هو مع الإقرار : فعل ما يؤمن به الإنسان نفسه من سخط مولاه ووعيده ، ويدخل فيه الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بالقلب واللسان وجميع الطاعات لله والحمد لله.(1/8)
أقسام الإيمان
والإقرار والتصديق: في لغة العرب بالقلب واللسان إيمان آخر ، تقول العرب : آمن فلان بالأمر ، معنى ذلك أقر وصدَّق به. فهذا الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بالقلب واللسان فقد يكون مرة ضارا ومرة نافعا ، ومرة لا ضارا ولا نافعا ، ومرة نافعا في الدنيا وغير نافع في الآخرة ، ذلك معروف في اللغة.
فأما الإيمان الضار المذموم وأهله من ذلك :فهو الإيمان بالجبت والطاغوت وجميع الباطل ، قال الله سبحانه:?ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا? في أمثال لذلك من القرآن.
وأما الإيمان الذي لا ضارا ولا نافعا ، ولا مذموما ولا ممدوحا ولا أهله :فهو الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق باللسان والقلب عندما يرى العبد بعض آيات الله التي ييأس مع رؤيتها من نفسه ، ولا يمكنه اكتساب خير وعمل صالح ، ولا يقبل له توبة مع رؤيته واستيفائه ما يتبين له من حضور الموت فيه ، وعدم السلامة منه ، وذلك فمثل إيمان فرعون حين أدركه الغرق فقال:?آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل? فقال جل ذكره:?الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين? ومثل إيمان من أّخَّرَه المرض فتبين له عدم الحياة ، وعلم أنه ميت ، ولم يطمع في النجاة الذين قال الله جل ذكره فيهم :?إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما?.
معنى قوله سبحانه :?بجهالة? ليست الجهالة ضد المعرفة ! ولكنها الجهالة بتعريض النفس لسخط الله ، فإن العاصي لله يوصف بالجهل.
ومعنى قوله :?من قريب? أي لا يكون من المُصِرِّين على الذنوب وهم يعلمون أنها تسخط الله ، فتكون حال هؤلاء حالا تغلظ تبعتها ويعظم ضررها.(1/9)
وكذلك قال الله سبحانه في آل عمران :?والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون? ثم قال جل ذكره :?وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما? فسوى بين المنافقين العصاة له ، وبين الكفار المشركين به ، وهؤلاء فهم الذين ذكرهم الله في الآية التي ذكرتها قبل في آل عمران.
ومعنى ?حضر أحدهم الموت? أي يئس عندما به من الحياة وعقله ولسانه صحيحان
وكذلك قال سبحانه في سورة المائدة :?يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية? فهؤلاء الذين قد رأوا من آيات الله وحلول نقمته ما قد يئسوا به من السلامة والحياة فلا تقبل لهم توبة ، ولا يكون لهم إلى ما يحبون أوبة فأما عند حقيقة حضور الموت والغرغرة فلا تكن توبة ولا وصية وفي أمثالهم يقول الله سبحانه :?فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون?.
ويقول الله تعالى ذكره :?هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون? فهذا الإيمان من العبد يكون في حال أياسه من نفسه بظهور آيات الله له فلا ينفعه ولا يضره.
فأما الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق النافع في الدنيا وهو غير نافع في الآخرة فهو إيمان المنافقين والفسقة الظالمين ، العصاة لرب العالمين ، الذين حقنوا دماءهم في هذه الدنيا ، وحملوا دماءهم في هذه على أحكام أهل الإسلام وورثوا به مواريث المسلمين.(1/10)