مسألة في الإستطاعة وجوابها
إن سألت المجبرة القدرية فقالت: لأي شيء خلق الله آدم عليه السلام وذريته ؟ والجن وذريتهم ؟ قيل: لما وصف جل ذكره بقوله الحق :?وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون? ، فإن قالوا: فكانوا هم يقدرون على طاعته وعبادته ؟ قيل لهم : نعم لم يكلفهم الله طاعته وعبادته إلا وقد جعل لهم السبيل الى ماكلفهم وأمرهم به ونهاهم عنه لأن من أمر عبده بما لم يجعل له اليه سبيلا ثم عذبه على تركه بما لم يجعل له السبيل اليه فقد ظلمه إذا منعه مما أمره به بالقهر والإجبار ، وقد قال سبحانه :?وماالله يريد ظلما للعباد? وقال: ?إن الله لايظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون? فأخبر انه سبحانه لايظلم عباده ، وإذا منعهم مما أمرهم به ولم يقوهم على فعله ثم عذبهم كان ظالما لهم ، وقد انتفى جل ذكره من ظلمهم بما تلوته قبل ، وبقوله :?مايفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما? وقال:?لايكلف الله نفسا إلا وسعا? والوسع في لغة العرب : القوة والطاقة ، فهذا المعروف في لغة العرب.
فلو كلف الله عباده كلهم البالغين منهم عبادته ، والإيمان لأنفسهم من سخطه ووعيده بفعل ماأمر به ، والإزدجار عما زجر عنه علم أنه لم يكلفهم إلا مايطيقونه ، وقد جعل لهم القدرة على فعله ، وبذلك ثبتت حجته عليهم وكان تعذيبه من عذب منهم بظلمه ومعاصيه حكمة وعدلا عليهم والحمد لله شكرا.(1/91)


فإن لم يرض المخالف للحق بما بيناه وفسرناه فلم يبق إلا التعلق بما هم عليه من الإجبار والإضطرار يقال له عند ذلك : هل كلف الله عباده مايطيقون أوكلفهم مالايطيقون ؟ فإن زعم أنه كلفهم مالايطيقون قيل له : فلم زعمت أن الله منع الكافر من القوة على فعل الإيمان ، وأمر أن يؤمن كما منع السماء أن تقع على الأرض اجبارا ؟ ومامعنى الأمر والنهي والوعد والوعيد والمواعظ والذكر والكتب والرسل ؟ فإن قال: لامعنى لذلك أظهر كفره وجحده لربه ، وإن زعم أنه له معنى سئل عن ذلك المعنى فإن قال: أراد الله بذلك اقامة الحجة عليهم قيل له : ماتنكر أن يمنع عبدا من عبيده بإخراجه من النطق والكلام ثم يبعث اليه رسولا يقول له : قل لاإله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلا عذبتك في الدنيا والآخرة ،يريد بذلك اقامة الحجة عليه وهو لايقدر على ماأمره به ، ثم يأمر رسوله بقتله وبسبي ذريته إن لم يقبل ماأمره بقوله ، ويكون بذلك عدلا.
فإن زعم أن ذلك لايجوز لأنه ظلم وجور قيل له فكذلك مادنت به وقلته لايجوز لأنك زعمت أن الله يمنع عبده من الهدى اجبارا كما منعه من الكلام اجبارا ، ثم يساله كما تزعم أن يأتي بالإيمان والهدى الذي منعه منه ، ويتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإياه نعبد ونحمد ونستعين.(1/92)


مسألة في الإرادة وجوابها
إن سال سائل من المجبرة القدرية فقال: أتقولون إن الله عز وجل أراد من جميع خلقه البالغين الإيمان ؟ أم أراد ذلك من بعضهم دون بعض ؟.
قيل له : بل نقول : إنه أراد ذلك من جميعهم فإن قال: أتقولون : إنه أراد ذلك فلم يكن ماأراد ؟ قيل له : إن ارادته لذلك على ماتقدم به بياننا وقولنا في باب المشيئة ارادة بلوى واختبار لاارادة اجبار واضطرار ، وبين الإرادتين على مابيناه قبل فرقان.
ولو أراد ذلك منهم ارادة اجبار واضطرار كانوا كلهم مؤمنين ، ولم يكونوا محمودين ولامثابين بما أعده لمن أطاعه من ثواب المحسنين ، ولو أراد أن يقهرهم ويجبرهم على الإيمان كان على ذلك قادرا كما أراد في أصحاب السبت فقال لهم :?كونوا قردة خاسئين? فكانوا من ساعتهم كما أراد وقد قال لجميع عباده :?كونوا قوامين بالقسط ? ارادة بلوى واختبار وأمر لاإرادة اضطرار ، فكان منهم المطيع ، ومنهم العاصي ، ومنهم الداني الى أمره ، ومنهم القاصي ، ولو أراد اجبارهم على القيام بالقسط لكانوا من ساعتهم كلهم كذلك ، ولو فعل ذلك بهم مااستحقوا منه حمدا ولاثوابا.
ويدل على ذلك كتاب الله الناطق بالحق الصادق فإن الله سبحانه أخبر انه أراد بجميع خلقه الخير والصلاح ولم يرد بهم الكفر والضلال فقال تعالى :?تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة? فأعلم أن ارادته غير ارادة عباده.
وقال: ?يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر? وقال: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم? فأخبر أنه يريد بهم الهداية والخير والتبيين لهم ، فامتدح بما أراد بهم من اتباعهم طاعاته ليثيبهم بذلك نعيم جنانه المقيم.
ولو أراد بهم الضلال والكفر لم يصف نفسه بأنه أراد بهم الهداية والإيمان.(1/93)


ثم قال سبحانه :?والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما? فأوضح سبحانه وبين ارادته من ارادة سواه ، وأن ماأراد سواه ليس مما أراده والحمد لله رب العالمين.
وبعد : فلو أن الكفار كانوا بكفرهم فاعلين ارادة الله لكانوا له مطيعين وبفعلهم ماأراد محسنين ولجزائه مستوجبين فلما لم يجز أن يكون الكافر محسنا في شتمه لربه وخلافه أمره ، وقتله أنبياءه وافساده في أرضه علم أنه لم يفعل ماأراد الله ولاماشاء ، وقد بينا هذا في باب المشيئة.
والله مشكور وبما هو أهله مذكور ، وصلى الله على محمد وذريته أهل التطهير وسلم.
وروي لنا وأخرنا عن ابي عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام وعن جماعة من أهلنا رحمهم الله أنهم كانوا يقولون : بالمنزلة بين المنزلتين لااجبار ولاتفويض.
فمعنى قولهم : لاإجبار فهو صدق ، خلاف ماقالت المجبرة القدرية ، ففي كل عقل سليم ، وأن معنى ذلك : الإضطرار من الله جل ذكره لعباده الى أعمالهم التي امرهم بها ونهاهم عنها.
وأما قولهم : ولاتفويض ـ فإن كثيرا من الناس قد غلطوا واختلفوا في تأويل ذلك والله المستعان.
ومعنى قولهم : ولاتفويض ـ لاإهمال كما أهملت البهائم ، وفوض اليها أعمالها ، لم يمتحنها الله ولم يامرها ولم ينهها لأن الله سبحانه قد أظهر حكمته بما كان من بلوه ومحنته لعباده بالأمر والنهي بعد التمكين والوعد والوعيد والجنة والنار ، والإباحة والحظر ، فهذا هو المنزلة بين المنزلتين التي أراده آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قولهم : لاأجبار ولااهمال تكلموا بذلك موجزا مختصرا لمن عقل منزلة المحنة والإختبار بين التفويض الذي هو الإهمال وبين الإضطرار.(1/94)


وقد ذكر عن أمير المؤمنين عليه السلام هذا التفويض الذي هو الإهمال في بعض خطبه قال: حدثني محمد بن منصور المرادي ، قال: حدثني القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل ، قال: حدثنا عبدالله بن ابراهيم بن عبدالله بن الحسن عن الحسن بن ابراهيم عن بعض آبائه قال:(قل ماكان يعتدل بأميرالمؤمنين عليه السلام مكان مختطبه إلا قال: أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرء عبثا فيلهو ولاأهمل سدى فيلغو ومادنياه التي تحسنت اليه بعوض من الآخرة التي قبحها سوء الظن بربه ، وماالخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى منيته كالنفيس الذي ضيعه من الآخرة بأدنى سهمته).
تم كتاب البساط والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا ، وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين الأكرمين وسلامه.
قال في الأم المنقول منها مالفظه : فرغ منه لنفسه بمن الله عليه وفضله لديه الفقير الى الله أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد بن علي بن محمد المسوري غفر الله له ولوالديه ولإخوانه من المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، وأكرم نزله بين يديه وسط نهار الثلاثاء سابع ذي الحجة الحرام أحد شهور عام خمسين وألف ختمه الله بكل خير وسعادة ، وختم لنا جميعا بمرضاته ومن علينا وعلى المسلمين ببقاء من بحراسته حراسة النعم أميرالمؤمنين المؤيد بالله محمد بن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه وأطال عمره وتفسيح مدته آمين بمنزله وفقه الله من محروس شهارة حرسها الله.
ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم حسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.اهـ
قال : بلغ مقابلة على الأم المنقول منها وتصحيحا وضبطا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.(1/95)

19 / 20
ع
En
A+
A-