مسألة في المشيئة وجوابها
زعمت المجبرة القدرية أن الله شاء معاصي عباده وخلافهم أمره ، ولم يرض ذلك ولم يحبه.
وهذا من فساد التدبير والحكمة على حال لو نسبت اليها آبآؤهم لغضبوا ، وذلك أنهم يزعمون أن الشيطان شاء وأراد المعاصي لله ، وأحب ذلك ورضيه ، فكان من شاء وأراد ماأحب ورضي أولى بالحكمة وحسن التدبير في كل عقل سليم من غلبة الهوى ويتعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
وقد تكلم الناس في المشيئة فزعمت المجبرة القدرية أن كل مايعقل ويعرف من معاصي الله فبمشيئته وارادته ، وأن المشيئة لذلك مشيئة واحدة لاتختلف معانيها.
وقالت المعتزلة ومن قال بقولهم: المشيئة والإرادة من الله على معنيين ، مشيئة وإرادة حتم ، وذلك ماوصفه الله سبحانه بقوله :?كونوا قردة خاسئين? كما شاء وأراد ، وقوله :?إنما قولنا لشيء إذا اردناه أن نقول له كن فيكون? فهذه مشيئة واردة الحتم.
والمشيئة الأخرى : مشيئة الأمر والإختيار ، ويدل على ذلك قوله جل وعز :?كونوا قوامين بالقسط? فكان بعضهم كذلك ولم يكن بعض ، وهذا القول عندنا حق غير أنه يحتاج الى زيادة في البيان.
وتلك الزيادة على فعل ماأمرهم به وترك مانهاهم عنه ، ويدل على ذلك قوله جل ذكره :?وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر? الآية وقوله :?إن الذين يلحدون في آياتنا لايخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنايوم القيامة اعملوا ماشئتم إنه بما تعملون بصير? فهذه مشيئة التخلية ، وفيها وعيد شديد فمتى عملوا بمعاصيه فلم يشأ ذلك ولم يرده ، ونهى عنه وواعد عليه وهو فعلهم لافعله ، ومتى عملوا بطاعته فهو فعلهم دونه ،ولهم على ذلك ماوعد من أطاعه وله من المشيئة والإرادة في ذلك مشيئة الأمر والإختيار ومشيئة التخلية وقد احتجت المجبرة والقدرية لمذهبها الفاسد بما لم نعقله.(1/81)


وذلك فقول الله جل ذكره :?فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين? الى آخر السورة ، وقوله : ?إن هذه تذكرة فمن شاء أتخذ الى ربه سبيلا وماتشآؤن إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما? ولهذه الآيات تأويل غير ماذهبوا اليه ، وضلوا بقوله وحملوه على لكنتهم وذلك ان الله سبحانه قال فيما أنزل من كتابه الحكيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه :?إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وماتشاون? الإستقامة بعد الذكر حتى يشاء الله ذلك منكم ويأمركم به.
وكذلك قوله تعالى ذكره في الآية الأخرى :?إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا? فدل أيضا بهذه الآية على مشيئة التخلية والإختيار ثم قال: وماتشآون أن تتخذوا الى ربكم سبيلا بهذه السورة التي هي تذكرة لكم حتى شاء الله ذلك منكم قبلكم وأمركم به ، وهذا فبين لمن لم يطبع على قلبه والحمد لله.
وقد يجوز أيضا أن يكون جل ذكره أراد بقوله :?وماتشآون إلا أن يشاء الله? ماتكونون ممن له مشيئة وإرادة حتى شاء الله ذلك ، وكل هذا فخبر صحيح المعنى والله مشكور.
ويسألون فيقال لهم : أتؤمنون بكل ماشاء الله وأراده ؟فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم : فيلزمكم أن تقولوا : إن الله ثالث ثلاثة وما قالت المجوس من الإثنين ،وما قال من جحد الله ، لأنهم يزعمون أن كل من قال شيئا من ذلك فبمشية الله وإرادته قاله، فيجب أن يكونوا مؤمنين بقول من قال: إن الله ثالث ثلاثة ، وقول من كفر بالله ، وإن قالوا: لانؤمن بكل ماشاء الله ، وأراد حتما؟ فأنتم إذن كافرون بالإيمان وجميع طاعة الله و?ذلك هو الضلال البعيد?(1/82)


وعلى قياس قولهم يجب أن يكون كل عاص لله مطيعا فيما أمر به ، فيكون عاصيا مطيعا في حال ، ويجب أن يكون الشيطان وجميع الفراعنة مطيعين لله ، لأنهم قد فعلوا ماشاء الله من معاصيه، وإن قالوا من فعل ماشاء الله يكون عاصيا لله فالأنبياء عندهم وكل مؤمن من عصاة الله لأنهم فعلوا ماشاء الله ، ويقال لهم أيشاء الله عندكم الحق والصواب ؟ أم شاء عندكم الباطل والخطأ؟ فإن قالوا: الحق والصواب ، فالكفر عندهم حق صواب ، لأن الله شاءه عندهم وأراده ، وإن قالوا: شاء الله الباطل والخطأ، فالإيمان عندهم باطل غير صواب ، لأنه قد شاء ذلك عندهم.
ويقال لهم : أليس من خلق الله له الشتم وشاء ذلك له ورآه مستحقا لذلك ؟ فإذا قالوا بلى ! قيل لهم: فالأنبياء عليهم السلام عندكم مستحقين للشتم واللعن والتكذيب ، لأن الله شاء ذلك عندكم ممن فعله ونالهم به ، ويقال لهم أليس كل ما يدين به العباد على اختلافهم، قد خلقه الله وشاءه وأراده وإلا فافرقوا ولن تجدوا فرقا إن شاء الله ، وهذا يكثر ممن يحسن أن يخرجه عليهم وإنما ذكرت بعض ما يستدل به من له فهم على غيره والله مشكور وبما هو أهله مذكور.(1/83)


وقد بين سبحانه بنص كتابه الإنكار والذم على من قال بمثل قول المجبرة ولمن ذهب مذهبهم ، فقال جل ذكره?وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولاآباؤنا ولاحرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين? وقال سبحانه : ?سيقول الذين أشركوا لوشاء الله ماأشركنا ولاآباؤنا ولاحرمنا من شيئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين? فسبحان الله ماأبين حجته على القدرية المجبرة وأوضحها قالوا لوشاء الله ماعصيناه فقال سبحانه: لو شئت أن أبلوكم على الهداية لكنت قادرا على ذلك ، ولكن شئت أن أبلوكم أيكم أحسن عملا ، وأختبر طاعتكم ، بعد أن أعطيتكم الإستطاعة علء ماكلفتكم ونهيتكم عنه، فلي الحجة البالغة ولرسلي مابلغوكم عني من البلاغ المبين والحمد لله رب العالمين ، فقالت المجبرة كما قال إخوانهم المشركون لوشاء لله ماعصيناه ولكنه شاء أن يكفر وأن نعصيه و?ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار? وكل ماكان في القرآن من مثل قوله سبحانه:?لوشئنا لآتنيا كل نفس هداها ? الآية وهو كثير ، فإنما ذلك إخبار منه لعباده بقدرته على إجبارهم لو شاء ذلك ، ولكنه شاء اختبارهم وبلواهم بعد تمكينهم من أمره ونهيه فقال:? الذي خلق الموت والحياة ليلوكم أيكم أحسن عملا? قال: ?ذلك ولوشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض? فأعلم أنه لم يشأ أن يجبرهم ، وأنه إنما شاء بلواهم واختبارهم.(1/84)


وقال تعالى:?وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ? .
وأجمعت الأمة أنه لايجوز أن يغفر لليهود والنصارى إلا أن يتوبوا ، فأخبر عن قدرته على المغفرة لمن يشاء ، ولايشاء أن يغفر إلا لمن تاب وآمن وعمل صالحا فقال: ?وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى? والحمد لله اولا وآخرا.(1/85)

17 / 20
ع
En
A+
A-