مسألة في معنى الختم
وكثيرا ماتسأل المجبرة عن قول الله سبحانه :?ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم? ويعتقدون أن ختم الله على ذلك منعها من فعل ماأمرها بفعله.
<معنى الختم>
والختم أرشدك الله في كلام العرب ينصرف على وجوه فمنها : ختم الكتاب ، وختم الكيس ، إذا جعل الرجل خاتمه على الطين أوالشمع يكون عليه.
ومنها: أن العرب تقول : ختم هذا الأمر بالسفه ، وبما لايحسن.
ومنها: التصديق والمتابعة على مايقول القائل في ذلك مثل أن يقول قولا فيصدقه الآخر فيقول : أنت تختم علىمايقول ولاتنكر منه شيئا.
ومنها الشهادة والإقرار على الإنسان بما قد عرف منه ، وذلك مثل أن يعظه الواعظ ويامره برشد ويعاتبه فيراه غير قابل النصيحة ولاعتابه فيقول له : ختمت عليك أنك لاتفلح ولاتنجح ، أي : شهدت عليك بذلك.(1/61)


وأواخر الأمور : خواتمها ، ومن ذلك قيل: لنبئينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبئيين ، وهذا يكثر تخريجه من اللغة فكان يجب على المجبرة أن تنسب الله سبحانه إلى مايليق مما جاءت به اللغة العربية ولاينسبه الى الجور ومايشبهه ، ومالم يعرف في اللغة فإنه لايعرف في اللغة أن الختم المنع من الشيء ، وقد عرف الله سبحانه أنه لم يمنع عباده مما أمرهم به وذلك فبقوله :?فما لهم لايؤمنون وإذا قريء عليهم القرآن لايسجدون? فلو كان هو المانع لهم لقالوا: لأنك منعتنا من ذلك بختمك على قلوبنا وسمعنا وجعلت على أبصارنا غشاوة وكذلك قوله :?ومامنع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى? وكذلك قوله لإبليس :?مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين? فلم يقل لأنك منعتني من ذلك ولكن قال: ?أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين? فمعنى الختم وماكان مثله : الشهادة من الله عليهم لما علم منهم ومن قلوبهم أنها لاتبصر ومن آذانهم أنها لاتسمع أبدا ، ويدل على تحقيق ذلك أول الآية وآخرها فإنه سبحانه قال:?إن الذين كفروا سواء عليهم? الى قوله:?ولهم عذاب عظيم? فشهد بهذا القول على قلوبهم أنها لاتؤمن أبدا، وعلى أبصارهم أنها لاتبصر أبدا ، وعلى أسماعهم مثل ذلك لما عرفه جل ذكره من سوء نياتهم واستكبارهم ، وذلك ماشهد به مما علمه من قوم نوح فقال: ?إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن? ولم يقل : إني أنا الذي منعتهم من الإيمان ، وفيما بينت كفاية انشاء الله.(1/62)


ووجه آخر : وهو أنه لما علم سبحانه أنهم لايؤمنون مخلدين أبدا, جعل خاتمة أعمالهم قلوبهم وحكم عليها بأنها لاتفلح ولاتصلح, وجعل لهم العذاب الأليم ?كما لم يؤمنوا به أول مرة? وبما كانوا يكذبون ، وإنما أخبر سبحانه وشهد عليهم بما عرف من أعمالهم واصرارهم على معاصيه كما خبر عن علمه بقوله :?ولو ترى إذ وقفوا على النار? الى قوله :?وإنهم لكاذبون? فبأعمالهم الردية ختم على قلوبهم وعلى سمعهم أنها لاتؤمن أبدا.
كما قال: ?كلا بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون? فشهد وحكم على قلوبهم أن سوء كسبهم قد ران ، والرين هو مايحيط بها من سدد أوغشاء أوذهل فلا يعقل ولايسمع قال عمر بن الخطاب : اسيفع جهينة أصبح قد رين به ، معنى ذلك قد أحيط به ، وقال الشاعر:
خلا علي الهيم خمسا صاحبي لم ترو حتى هجرت ورين بي
معنى ذلك حتى أحاط بقلبي السدد والغشاء والحمد لله أولا وآخرا.(1/63)


مسألة في معنى ?فزادهم الله مرضا? الآية
وكذلك ظن المجبرة السوء التي ظنت بربها في قوله :?فزادهم الله مرضا? فتأويل ذلك أن الله جل ذكره أخبر عن المنافقين أن في قلوبهم كفرا وكبرا ، وأنهم في شك مريب فكانوا كلما أنزل الله على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم سورة فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وقصصه وأمثاله ، كذبوا بها وازدادوا بذلك كفرا الى متقدم كفرهم, ومرض قلوب الى مرض قلوبهم فجاز في كلام العرب أن يقال: زادهم الله فيما أنزل على نبيه عليه السلام مرضا الى مرضهم ونسب الله ذلك الى نفسه لأنه الذي أنزل السورة التي ازدادت قلوبهم بها مرضا.
ونظير ذلك أن يقول الإنسان قد وعظت فلانا فما زاده وعظي إياه إلا بعدا من الخير ، ويقول: قد زدت فلانا غضبا بما أخبرته عن فلان ، وزاده بما تلى عليه من القرآن كفرا الى كفره قال سبحانه عن نوح عليه السلام :?قال ربي إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا? الى قوله :?وأصروا واستكبروا استكبارا? فهم الذين فعلوا من الخلاف بما دعاهم اليه نوح فجاز أن يقول نوح إن دعاءه إياهم الذي زادهم فرارا وكفرا وانكارا.
ويحقق ذلك قوله سبحانه في آخر الآية :?ولهم عذاب أليم بما كانوا يكسبون? هذا تأويل هذه الآية وكل مافي القرآن يشبهها والحمد لله.(1/64)


مسألة في معنى ?الله يستهزىء بهم? الآية
وكذلك ماتضل به المجبرة من قول الله سبحانه :?الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون? فيرون أن ذلك كاستهزاء العباد بعضهم ببعض ، وإنما ذلك الإستهزاء من الله بهم أنه ممهل لهم وغير معاجل لأخذهم ، وأنه عالم بما سينالهم من عقابه وأليم عذابه على سوء أفعالهم ، وذلك فمثل مايعرفه العرب من تصرف معاني الكلام فيما بينهم فلو أن رجلا استهزأ برجل وسخر منه ، واحتمل الآخر منه ووكله الى عقاب الله وأخذه له منه بظلمه غياه لجاز أن يقول قائل للمستهزيء لاتظن أنك تستهزيء بفلان فأنه هو المستهزيء والساخر منك لاحتماله وتغافله عليك وأخذه له بحقه منك بما أعده الله للمستهزئين الظالمين من العقوبة والنكال وسوء العاقبة.
وكذلك لو كان لرجل عبد يستهزئ ويخالف أمره فينهاه مولاه عن ذلك فلا ينتهي لجاز أن يقول له مولاه أمهلتك لأعاقبك على فعلك بما تستحقه وإنما حلمي عنك لأني لاأخاف أن تفوتني بجرمك فعلى هذا المعنى الإستهزاء من الله سبحانه في جميع ماذكره من كتابه.
وكذلك المخادعة والمكر والكيد ،وكل ماأشبه ذلك في كتاب الله والحمد لله رب العالمين كما هو أهله.
وتحقيق ذلك قوله سبحانه :?وأملي لهم إن كيدي متين? أي : أن أخذي اياهم بالعذاب على ذنوبهم شديد أليم ، والله مشكور وبما هو أهله مذكور.(1/65)

13 / 20
ع
En
A+
A-