باب في وصف الهداية من الله ومن عباده
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ماأبلى وأولى ، وختم به وابتدأ ، وأوضحه وبينه لنا فيما أضل به وهدى ، فكان من بالغ حكمته ، وظاهر تدبيره ونعمته ، أن هدى عباده في الإبتداء ، وحكم لهم بوعدهم إياهم أن يزيد من اهتدى بهداه هدى إلى هدى.(1/51)
معاني الهدى
فالهدى منه سبحانه له وجوه ومعاني بينة واضحة موصوفة في لغة القرآن وعند أهل الفصاحة والبيان ، التي ضل وهلك من جهلها من الناس ، لأنهم تأولوها بلكنتهم وخرجوها على قدر قلة حكمتهم ، فضلوا وأضلوا كثيرا منهم.
فأحد وجوه هداية الله سبحانه لعباده : ماابتدأهم به من الدلالة على ماأمر به ونهى ، وعلى مايسخط به ويرضى والتبيين لهم مافيه سعادتهم أوشقوتهم مما أنزل به الكتاب المبين, وجاء به الرسول الأمين صلى الله عليه وآله أجمعين ، ودل جل ذكره على أن هذه الهداية التي ابتدأ بها عباده دلالته وتبيينه لهم مراده قوله تعالى :?لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين? الىقوله :?إلا من بعد ماجاءتهم البينة? وقوله تعالى ذكره :?قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم? وقوله جل ذكره :?وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى? وقوله سبحانه :?وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا? وقوله عز وجل الذي بين فيه أكثر وجوه الهداية مما هو المنفرد بفعله ومما هو فعل العباد :?كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ومااختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ماجاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوالما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم? فهذه الهداية من الله هي هداية الدلالة والتبيين.(1/52)
وهاهنا هداية من الله سبحانه أخرى جزاء منه للمطيعين المؤمنين ، الذين هم لما دلهم عليه وهداهم له وبينه لهم فاعلون, وهي مايزيده من أطاعه واتبع مادله عليه وهداه له بلطفه من شرحه لصدره ، وفتحه لسمعه وبصره ، وتذكيته لقلبه ، حتى يزداد بصيرة في دينه ومعرفته ويقينه ، قال الله سبحانه في بيان ذلك :?ومن يؤمن بالله يهد قلبه? وقال في الآية التي تلوتها قبل هذه في سورة البقرة :?فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه? فأخبر في أول الآية أنه هداهم هداية الدلالة في الإبتداء, وأخبر في الآية أنه هداهم هداية أخرى لماَّ أمنوا واتبعوا مادلهم عليه أولا.
وقال جل ذكره في ذلك :?والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم? معنى ذلك : الذين فعلوا مادلهم عليه في الإبتداء ، وبينه لهم من الهدى ، زادهم هدى بما شرحه من صدورهم ، وفتحه من أسماعهم وأبصارهم ، حتى وقع بذلك منهم حسن اختيارهم.
ومعنى ?وآتاهم تقواهم? أي : آتاهم ثواب تقواهم كما قال جل ذكره في مكان آخر:?نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون? وقال: ?وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم? معنى ذلك أجمع : أنه يوفيهم جزاء أعمالهم والله المعبود والمحمود.(1/53)
وهنا هداية أخرى من الله سبحانه وهي الحكم لمن أطاعه واتبع مادله عليه بالهداية ، كما يقول القائل : هديت فلانا إذا فعل طاعة الله وأضللته : إذا فعل معصية الله أي حكمت عليه بذلك ، قال الله سبحانه في بيان ذلك :?من يهدي الله فهو المهتدي? لأن الله هدى الناس جميعا هداية بالدلالة والتبيين في الإبتداء فلا يقع في ذلك اختصاص لأحد دون أحد ، وإنما يقع الإختصاص منه سبحانه لمن اهتدى واتبع مادله عليه فحكم له بالإهتداء ، وهذا هداية أخرى واهتداء من أفعال العباد لما دلهم عليه وأمرهم به من طاعته واتباع مرضاته ، وذلك فاهتداء من العباد لهم من الله عليه الثواب وجميل جزاء وكريم مآب ، والهدايات الأولى التي قد تقدم ذكري أياها فهي أفعال الله للعباد ولاجزاء لهم عليها في الدنيا ولافي المعاد.
ومن الدليل من كتاب الله تعالى على هذه الهداية وهذا الإهتداء المخصوص بهما العباد قول الله تعالى :?والذين اهتدوا زادهم هدى? معنى ذلك : الذين فعلوا مادلهم عليه وأمرهم به ، زادهم الله عليه هداية ، وآتاهم ثواب طاعتهم له.
وقوله سبحانه :?من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا? .
وقوله في الزمر:?إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وماأنت عليهم بوكيل? .(1/54)
وقوله :?الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون? في أشباه لذلك فلو لم يفسر القرآن أهل النقص والجهل به ، على مبلغ عقولهم ولم يحملوا تأويله على لكنتهم ، وردوا علمه الى تراجمته من أهل بيت نبيئهم عليه وعليهم السلام كما أمر الله بقوله :?ولو ردوه الى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم? الى قوله :?لاتبعتم الشيطان إلا قليلا? لسلموا من الضلال ، وسلم منهم من اتبعهم من المستضعفين الجهال ، ولم ينسبوا الله الى الجور والمحال ، ولم يجعلوا له ماكره وذم من سيئ الأفعال ، والحمد لله على جميع هدايته وحسن ولايته ، وصلى الله على محمد وذريته وسلم تسليما كثيرا(1/55)