والعمل حقيقة، قال اللّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الممتحنة: 12].
فسل أهل البدع والباطل لو أن امرأة منهن قالت: يا رسول اللّه أشهد أن هذا الذي تبايعني عليه حَقٌ من اللّه تعالى، غير أني لا أصبر عن الزنا والسرقة، أكان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يبايعها، ويستغفر لها؟! أكانت تُنَزَّل منزلة المؤمنات؟! فيحق على نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الاستغفار لها.
وسلهم عن امرأة بايعت وأقرت بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ثم ذهبت في السِّرِّ فزنت ، وقتلت ولدها، ثم ماتت في نِفَاسِها ذلك، فبلغ نبيُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها فعلته، أكانت ممن أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر لها، فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]؟!
فإن قالوا: قد ثبت لها الاستغفار.
قيل لهم: فلو أن رجلاً قتل نفساً مؤمنة وقد فرض اللّه تعالى عليه الدية، وتحرير رقبة مؤمنة، فَدُلَّ على امرأة يشتريها ليعتقها، فوجدها قد زنت وقتلت ولدها فجاء يستفتيكم: تجوز عنه برقبة مؤمنة، التي أوجب اللّه تعالى عليه أم لا؟ فإن قالوا: لا تجوز برقبة مؤمنة. كان لهم دِيْنَانِ: دينٌ في السِّرِّ، ودين في العلانية.
وقال اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].(1/36)
فسلهم عن مشرك تاب من الشرك، وصَدَّق بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، أهو أخوهم في الدِّين، أم لا؟ فإن قالوا: نعم، هو أخونا. لم يكونوا من الذين قال اللّه تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[التوبة:11]، وإن قالوا: لا ندري. شكوا فيما أنزل على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وارتابوا.
وقال اللّه تعالى وتقدس: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5] فمن لم يُقِمِ الصلاة ويؤتي الزكاة ولم يحج البيت أَهَدَم الدين القيمة أم ثبت على الدين القيمة بالإقرار وتَرْكِ العمل؟ فإن قالوا: هو على الدين القيمة وقد ترك الصلاة والزكاة وحج البيت. خالفوا ما أنزل اللّه تعالى، وجحدوا كتابه واتبعوا أهواءهم، وكانوا في لبس من دينهم.
فإنهم يقولون فيما يقولون: إن اللّه تعالى قال في كتابه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}[التوبة: 36]، فإنهم يقولون: الشهور من الدين، فقل: أرأيتكم لو أن رجلاً عَدَّ السَّنَة إحدى عشر شهراً وترك شهراً، وقال أشهد إنه حق من اللّه تعالى، غير أني لا أعدها إلا إحدى عشر شهراً، فأخر شهر رمضان فجعله شوالاً، وجعل الحج في ذي القعدة، أترك دين اللّه تعالى، أم هو مقيم على دين اللّه بالإقرار، وقد خالف بالعمل؟(1/37)
وقد قال اللّه تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ(13)يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[الحديد: 12 ـ 14] وذلك أن الشيطان أوردهم في طاعته ومعصية اللّه تبارك وتعالى، ومَنَّاهُم المغفرة بغير توبة إلى اللّه تبارك وتعالى فقال اللّه تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحديد: 15].
فكان الذين أُرْسِل إليهم محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ثلاثة أصناف: مؤمناً ومؤمنةً، ومنافقاً ومنافقةً، والذين كفروا ـ أهل الأوثان ـ ، على غير دين محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فمن لم يكن اسمه يوم القيامة من أهل الدعوة مؤمناً كان منافقاً، ومن لم يكن اسمه منافقاً، كان من الذين كفروا، ولا يدخل اللّه النار أحداً من أهل الدعوة حتى يلزمه اسم النفاق، فإذا سيق الذين كفروا إلى النار، وسيق الذين اتقوا إلى الجنة، ذهبت الأسماء كلها إلا الإسمان اللذان خلق اللّه تعالى عليهما الناس.(1/38)
وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}[الزمر: 71]، قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد: 35].
وقال جل وعلا لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2)وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:1ـ5].
فقل لأهل البدع والباطل أليس تشهدون أن اللّه سبحانه وتعالى قد غفر لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فإنهم سيقولون: بلى. فقل لهم: فكيف لا تشهدون أن اللّه تبارك وتعالى يدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ، وقول اللّه تبارك وتعالى حق، كما غفر لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أوجب اللّه تبارك وتعالى للمؤمنين الجنة، وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وقال اللّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة: 5].(1/39)
فسلهم أيشهدون أن الصلاة والزكاة والحج وصيام شهر رمضان من الدين؟ فإن قالوا: نعم. قل: أتشهدون أن من تركهن ترك الدين؟ فإن قالوا: ليست الصلاة والزكاة من الدين. فقل لهم: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران: 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85].
فإنهم سيقولون: بلى.
فقل: فأنا أشهد أن الصلاة والزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان من الإسلام، وهنّ دعائم الإسلام وعليهن بُنِيَ الإسلام، وعلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فما تقولون أصدقت أم كذبت؟ أم لا تدرون أصادق أنا أم كاذب؟ فإذاً أنتم في شك مما أنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وقد قال اللّه تبارك وتعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 204 ـ 207].
فسلهم عن رجل نهى عن الفساد فلما نهاه غيره عن الفساد أخذته العزة بالإثم فقاتله فشرى هذا نفسه فقاتله، فأيهما البار وأيهما الفاجر؟ فإن اللّه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار:13ـ14].(1/40)