وأنزل في نقض العهد: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[آل عمران: 77]. الخَلاَق: النَّصِيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فكيف [يسمى مؤمناً في الدنيا؟!]
[فقل] لأهل البدع والباطل: أرأيتم لو أن رجلاً دفع إلى رجل عشرة آلاف درهم كانت ليتيم في حِجْرِه، فسأله أن يردها إليه، فجحده فيها ولم تكن له عليه بَيِّنَة، فاستحلفه فحلف له بالله يمينَ صَبْرٍ، ما دفع إليه شيئاً، وما له عليه حَقٌ، قليل ولا كثير، أكان ممن اشترى بعهد اللّه وأيمانهم ثمناً قليلا؟ وإن اللّه تعالى قال: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء: 77]، فلو أنه كان ممن اتقى اللّه تعالى ولم يشتر بعهد اللّه وأيمانه ثمناً قليلا لم يَخُنْ أمانته، فإن اللّه قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72]. فمن لم يؤد أمانته فيها كان منافقاً وكان كافراً، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النساء: 107].وقال عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف: 52].
ولا يتوب اللّه إلا على من تاب إليه، ولا يرضى عمن اتبع سخطه، إنما يرضى اللّه تعالى عمن أرضاه واتبع رضوانه، ومن استغنى عن اللّه ولم يتب إليه استغنى اللّه عنه، ولو قال بلسانه: تُبْتُ إلى اللّه، وخان أمانته، وأكل مال اليتيم، ولم يرده إلى أهله كان منافقاً، يَخْدَع نفسه.(1/11)
[الأدلة على أن مرتكب الكبيرة لا يسمى مؤمناً]
وأنزل اللّه تبارك وتعالى في المدينة: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: 1 ـ 2].
وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، فلو كان مؤمنا(1)[1]) لكان النبي بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.
وقال عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3] فلم يُسَمِّ الزاني مؤمناً ولا الزانية مؤمنة.
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، فإن تاب يتوب اللّه عليه )).
وأنزل الله عز وجل في القَذْفِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:4-5]، فبرأه اللّه ـ مادام مقيماً على الفِرْيَةِ ـ من اسم الإيمان.(1/12)
وقال تعالى:{ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}[السجدة: 18]، فصار منافقاً؛ لأن اللّه تعالى قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[التوبة: 67]، فصار من أولياء إبليس، قال اللّه: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف: 50].
وأنزل اللّه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 23 ـ 24].
وأنزل اللّه تعالى في المَرَح : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، والمختال: المُتَجَبِّر، والفَخورُ في كفره.
فسل أهل البدع والباطل كيف يكون رجلٌ لعنه اللّه في الدنيا ويلقى اللّه ملعوناً في الآخرة، يرجون أن يكون له عند الله تعالى نصيب، ويَشكُّون فيه أنه ليس من أهل النار؟
وسلهم هل يشهد اللسان واليد والرجل على مؤمن؟ إنما يشهدن على من حَقَّتْ عليه كلمةُ العذاب، فأما المؤمن فهو يُعْطَي كتابه بيمينه، قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[الإسراء: 71].
وسورة (النور) أنزلت بعد سورة (النساء)، وتصديق ذلك في سورة النساء:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].(1/13)
والسبيل الذي قال اللّه تعالى [هو]: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:1 ـ 2].
وأنزل اللّه تبارك وتعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }[النساء:48].
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].
[العمل الصالح شرط في الإيمان]
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا}[النساء: 122].
ثم أنزل تعالى بعدها: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء: 124].
ثم أنزل تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [النساء:125].
فأبى اللّه أن يقبل العمل الصالح إلا بالإيمان، ولا يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، فقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر: 10]، وأبى اللّه أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان، ولا يقبل الإحسان إلا بالإسلام.(1/14)
ثم أنزل عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}[النساء: 31]. فكل كبيرة ما وعد اللّه تعالى عليها النار.
ثم أنزل تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93].
وقال اللّه عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22،23]، وحين تَوَلَّى الذين أفسدوا في الأرض تَوَلَّوْا عن طاعة اللّه تعالى وقطع الرحم، فإن لقي أخاه من المسلمين ضرب عنقه وأخذ ماله.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، فإذا قتله برىء من أخوته وصار خصمه.
وتصديق ذلك: لو أن أخوين لأب وأم قتل أحدهما صاحبه لم يرثه الذي بينهما من الميراث.
وقال اللّه تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[النساء: 29 ـ 30].
فسلهم حين أصلاه اللّه تعالى النار أخرجه من رحمته إلى غضبه؟
فإنهم سيقولون: نعم.
فقل: هل أخرجه اللّه وهو في عداوته، أو في ولايته؟(1/15)