وإن قالوا: كافرٌ؛ فدعهم وباطلهم الذي ينتحلون، وطعام الخنزير ليس هو من طعام الأبرار ولكنه من طعام الكفار الذين كفروا بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وسلهم عن رجل يقطع الطريق على المسلمين فجعل يَلْقَى كل يوم رجلاً من المسلمين فيقتله ويأخذ ماله، حتى قَتَلَ مائة نفس، فكان مع آخر من قتله لحم في سفرته، فجلس القاتل فأكل منه، فدخل في حلقه عظم من ذلك اللحم فقتله في مجلسه ذلك.
فسلهم أمؤمن هو أم كافر؟ فإن قالوا لك: كافر. اضمحل باطلهم عنهم.
وإن قالوا: مؤمن. فقل: لو أنكم حضرتموه حين مات أكنتم قائمين على قبره ومصلين عليه؟ فإن قالوا: لا. فقل لهم: شككتم في دينكم والتبس عليكم أمركم، وارتبتم في رأيكم ، وإن قالوا لك: نصلي عليه. فقل لهم: أهو من المؤمنين الذين كان رسول اللّه أمر بالاستغفار لهم؟ فإن قالوا: نعم. فقل: كذبتم على ربكم تبارك وتعالى وعلى نبيكم صلى اللّه عليه وآله وسلم، إن هذا حرب لله تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يكن اللّه تعالى ليأمر نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يستغفر ويصلي على حربه.
وقد كانت الخمر حلالاً للمسلمين، فلما حرمها اللّه تعالى وجعلها مع الميسر والأنصاب والأزلام، جعلها رجساً من عمل الشيطان، فشكا المسلمون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقالوا: كيف بآبائنا وأمهاتنا وإخواننا الذين قُتِلُوا وماتوا وهذه الرجس في بطونهم؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة: 93]، فلم يبرأ الذين هلكوا من الأمم إلا من كان على هذه الصفة.(1/61)
فهذا ميثاق اللّه على عباده واثقهم به، وبهذا يدخل اللّه تبارك وتعالى عباده الجنة، ولا يدخلهم بالفسق، ولا بالعمل الذي لعن اللّه تبارك وتعالى مَنْ عمله وغضب عليه.
وأهل البدع يزعمون: أن الإيمان قول وإقرار بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وليس الإيمان العمل، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين قدم المدينة صلى إما ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، لم يتم فيها استقبال البيت الحرام، فلما صرف اللّه القبلة إلى البيت الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم من صلاتهم قبل ذلك، فأنزل اللّه على نبية صلى اللّه عليه وآله وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }[البقرة: 143] يعني بهذه الآية: الصلاة، فسمى صلاتهم: إيماناً.(1/62)
وقال اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ] فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة:84 ـ 86]، فأخذ اللّه الميثاق على بني إسرائيل في التوراة: ولا تقتلوا أنفسكم. إنما يعني بأنفسهم أهل ملتهم، وألا يأتيهم أسير من بني إسرائيل أو عبد أو وليدة إلا شروه إن بِيْعَ، فأعتقوه.(1/63)
فكان بين الأوس والخزرج في الجاهلية حرب شديد وقتل شهير، وكانت بنو قريظة من اليهود، والنضير من اليهود، حلفاء الأوس والخزرج؛ بنو قريظة خلفاء الأوس، والنضير حلفاء للخزرج، فكانت الأوس والخزرج إذا سارت بينهما القتال، جاء حلفاء الفريق كلاهما من اليهود، فقاتلوا مع حلفائهم خشية أن يستضعف حلفاؤهم، وبنوا الأوس والخزرج مشركون ليسوا على دين اليهود، فيقتل اليهود بعضهم بعضاً ويخرج اليهود بعضهم بعضاً من ديارهم، فإذا تخارجوا بينهم، وسكن القتال أتي بالعبد والوليدة من بني إسرائيل ليباع، أرسل الفريقان ـ الذين اقتتلوا قَبْلُ ـ بعضَهُم إلى بعض: اجمعوا فداء هذا الأسير حتى نعتقه، فإذا قيل لهم: لم تعتقونه ؟ قالوا: إن اللّه تعالى أمرنا بذلك. فيقال لهم: أليس؟ قد حرم اللّه تعالى دماء بعضكم على بعض في التوراة ، كما أمركم بشراء هذا الأسير؟ قالوا: بلى وكنا نخاف أن يستضعف حلفاؤنا.
فأقروا بأنه حق من اللّه تبارك وتعالى، فلم ينفعهم الإقرار حين لم يعملوا شيئاً، وجعلهم مؤمنين بإشترائهم الأسرى، وجعلهم كفاراً بسفك دمائهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، وهم يهود كفار بالله وبرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فجعلوا مؤمنون بالآية التي عملوا بها من اشتراء الأسرى، وغضب اللّه تعالى عليهم بسفكهم الدماء، حتى ردوا إلى أشد العذاب، قال اللّه تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر: 46].
[تم بحمد الله كتاب الإيمان]
---
( [1]) ـ يعني فلو كان الزاني مؤمناً لكان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ به رؤوفاً رحيماً، والله قد قال لنبيه في الزاني: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فهذا دليل على خروج الزاني من أن يسمى مؤمناً.(1/64)
( [ 3]) - أي وحجته التي يحتج بها في زعمه وقوله غير القرآن، بل يردها القرآن، وكل قول خالف القرآن وجب رده ومخالفته.
( [ 5]) ـ يعني أن من أنواع الكفر عدم الشكر لله عز وجل.(1/65)