وقال جل ثناؤه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص: 28 ـ 29] فمن كان له قلبٌ ـ نفعه اللّه تعالى وجهه في دينه، ونفعته موعظة ربه ـ لم يكن في صدره حَرَجٌ أن يشهد على ما شهد اللّه تعالى عليه، أن يقول مثل الذين قال اللّه تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177]، ويشهدون على هؤلاء الذين سماهم اللّه تعالى المفسدين في الأرض، وسماهم الفجار إنهم كفار، قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار: 13 ـ 14] فمن جعله اللّه تعالى في الجحيم كان من الكافرين، فليعتبر أولوا الأبصار في قولنا وقولهم.
إنهم يزعمون أنهم يرجون لكل صاحب كبيرة ـ قد أوجب اللّه تعالى بها النار الجنة ، وقَنَّطهم الشيطان من رحمة اللّه تعالى، وآيسهم من روح اللّه، أنهم إن شهدوا بما سمى اللّه تعالى لأصحاب الموجبات أدخلهم اللّه تعالى النار، فإن غفر اللّه تعالى لأصحاب الموجبات كما يقولون، فهؤلاء ـ الذين شهدوا بما شهد اللّه تعالى ـ حقٌ أن يُغْفَر لهم، إن اللّه تبارك وتعالى عدل لا يحيف في القضاء.
ويزعمون أنهم هم المهتدون والمصيبون في رأيهم.(1/51)
فسلهم عن رجل دعوه إلى رأيهم فاتَّبَعَهُم فواخوه في دينهم، فقال لهم: يا أخوتاه إني أريد أن أغزوا في سبيل اللّه تعالى فشيعوني، فخرج غازياً في سبيل الله وخرجوا معه، فسار قليلاً ثم نزل فقدم سفرة له فأكلوا منها، ثم إنه سلم عليهم وسلموا عليه، وودعهم ودعوا له بحسن الصحبة والكلاءة في السَّفر، فسار حتى إذا كانت صلاة الأولى قام فأذن للصلاة، فإذا هو برجل قد أقبل إليه، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأشهد عليك أن شهادتك هذه كاذبة، وأنك كافر، وأن ذبيحتك علي حرام، وأن دمك لي حلال، ثم تقدم إليه فضرب عنقه، وأخذ ماله لنفسه، فبلغكم ذلك والقاتل والمقتول من أهل القبلة، وأهل الشعار، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، فأخبروني حين قتله وأخذ ماله أعدوه هو والمخاصم له يوم القيامة، أم هو أخوه في الجنة على سرر متقابلين؟!
فما شهادتكم على رجل قتل أخاكم في دينكم وحَرَّم ذبيحتكم التي أكلتم معه منها، فأخبروني أفي براءة منكم القاتل والمقتول، أم وفي ولاية، أم أحدهما في ولاية والآخر في براءة؟ فإن قالوا: نبرأ إلى اللّه من القاتل. فقولوا: ما اسم القاتل، أكافر هو أم مؤمن؟ فإن قالوا: هو مؤمن. فقولوا: إنكم برئتم ممن تولاه اللّه تعالى، فإن اللّه تبارك وتعالى قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 68]. وإن قالوا: كلاهما في ولاية منا، عَمُوا وصَمُّوا عن الحق، وكان صاحبهم المتقي المقتول والقاتل الفاجر عندهم سواء، واستخفوا بحق اللّه تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}[إبراهيم: 42].(1/52)
وسلهم عن رجل قُتِلَ ابنُه، فأخذ قاتل ابنه فجاء بأربعة يشهدون عليه بالله أنه قتل ابنه، فجاء بهم إلى قاض من قضاة المسلمين فشهد الأربعة عنده أنه قتله، فسأل عنهم فوجدهم عدولاً مسلمين، فقال القاضي للرجل: ظَفِرَتْ يداك، خُذْ من القاتل كفيلاً، وأرجع يومك هذا فأتمر بينك وبين نفسك، إن شئتَ دفعنا إليك عدوّك فتقتله بابنك، وإن شئتَ أخذتَ الدية، وإن شئتَ تصدّقتَ بها على القاتل.
فرجع الرجل وقد أخذ منه كفيلاً بهذا، فقال للشهود الأربعة: بم حكم القاضي بيني وبين صاحبي؟
قال الأربعة الشهود: نشهد أنه قد حكم بما أنزل اللّه تعالى.
فلما أن أمسوا ذهب القاتل في ليله إلى القاضي، فقال: إن عندي إثني عشر ألفاً قد عرضتها عليه فأبى أن يقبلها مني، فهل لك أن آتيك بها فتبري كفيلي وتخلي سبيلي وتبطل شهادة الشهود؟
قال له القاضي: نعم، ائتني بها.
فجاءه بها، فلما أن أصبحوا جاء أبو المقتول بالشهود والقاتل والكفيل إلى القاضي ، فقال القاضي لأبي المقتول: إذهب فإنه لا حق لك إنَّّ شهودك شهودُ زورٍ، وبَرَّأَ القاتل والكفيل من كفالته.
فرجع أبو المقتول والشهود، فقال أبو المقتول للشهود: إنكم شهدتم أمس أنه قد حكم بما أنزل اللّه تعالى فما شهادتكم اليوم عليه حين غَيَّر حكمه الذي حكم به أمس؟
قال اثنان من الشهود الأربعة: إنه اليوم لم يحكم بما أنزل اللّه تعالى، فهو: كافر، قال اللّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44].
وقال الاثنان اللذان شهدا أنه من المؤمنين: امرأتاهما طالقتان إن لم يكن من المؤمنين.(1/53)
فقل لأهل البدع والباطل أرأيتم إن ابتليتم فَجُعِل أحدكم قاضي المسلمين، فجاءتا امرأتا الرجلين الذين شهدا على القاضي إنه من الكافرين، فقالتا: إن رأيتنا حلالاً فارددنا إليهما، وإن رأيتنا حراماً ففرّق بيننا وبين أزواجنا، وقالتا المرأتان اللتان طلقهما زوجاهما إن لم يكن القاضي من المؤمنين: ونحن إن كنتَ ترانا حلالاً فردنا إلى أزواجنا، وإن كنت ترانا حراماً ففرّق بيننا، فعند هذا القضاء تدحض حجتهم، ويضمحلّ باطلهم، ويعمى عليهم أمرهم.
فسلوا اللّه تعالى الهدى والبصائر والعمل والفقه في دينه، فإنكم قد أصبحتم على ريبة من أمركم يا أهل البدع.
وسلهم عن رجل ركب فرسه وتقلّد سيفه ثم ذهب فقطع الطريق على المسلمين، فقتل المؤمنين وأخذ أموالهم، وأخذ بالربا، وشرب الخمر، وقذف المحصنة، وترك الصلاة، فإذا قيل له: أرأيتك هذا الذي تعمل حلالاً هو أم حراماً؟ فيقول: لا، بل حرام من اللّه تعالى.
فسلهم: أهو ممن يشفع له محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والملائكة؟ فإن قالوا: لا ندري، شكوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى.
وإن قالوا: نعم، كذبوا على اللّه تعالى؛ لأن اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء: 28].
وسلهم عن هذا الرجل أكافر هو بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، أم مؤمن بالله تعالى ورسوله؟ فإنهم سيقولون: هو مؤمن بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقل: فإن اللّه تعالى يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}[الحديد: 21].
فإن قالوا: لا ندري، شكّوا فيما أنزل اللّه تعالى، ولم تطمئن قلوبهم إلى قول اللّه تعالى: إنه سينجز وعده.(1/54)
وقلْ لهم: لكني أشهد أنه كافر بالله ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولا أقول إن كُفْرَه كُفْر شكّ فيما جاء به محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولكن أقول كفر بأمر اللّه تعالى وأمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، ففسق عن أمر ربه، فكان كفره كفر إبليس حين أبى أن يسجد لآدم صلى اللّه عليه، وهو مُصَدِّقٌ بالله تعالى يعلم أن اللّه تعالى هو الواحد القهار، ويعلم حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[الأعراف: 12]، وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال : {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِِِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا }[الإسراء: 62] فَصَدَّق بأمر ربه تبارك وتعالى كلّه لم يجحد شيئاً منه، غير أنه عصى معصية لم يتب إلى اللّه تعالى منها، فلعنه وغضب عليه وجعله من الكافرين بغير جحود بالله تعالى.
[تسمية أهل النفاق وصفاتهم وجزاؤهم]
وسلهم عن المنافقين: ما يسمونهم، أكفار أم مشركون؟ فإنهم سيقول لك: مشركون، فتراهم قد جحدوا ما أنزل اللّه تعالى وخالفوا قول اللّه تعالى؟
قال اللّه تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}[التوبة:56].(1/55)