وقال تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}[النور: 46 ـ 48].
فسلهم عن خمسة رهط من أهل القبلة، وافقوا عشرة رهط من تجار المسلمين، فأرادوا أن يأخذوا أموالهم، فلم يستطيعوا، فذهب الخمسة إلى عشرة من الأكراد فوالوهم ، فشاركوهم على قتال المسلمين فيأخذوا أموالهم، فدعاهم المسلمون إلى اللّه تعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وإلى كتابه الكريم وإلى أن يكونوا معهم على قتال الأكراد، فأبوا عليهم وقاتلوا ـ مع الأكراد ـ المسلمين حتى قتلوهم وأخذوا أموالهم فاقتسموها هم والأكراد.
فسلهم عن هؤلاء الخمسة الرهط حين تولوا عن طاعة اللّه تعالى، وقتلوا المسلمين مع الأكراد، أمن المؤمنين هم، أم هم [ليسوا] من اللّه في شيء؟
فإن قالوا: نعم، كانوا من الذين سعوا في آيات اللّه معاجزين، والمعاجزون: المشاقون؛ لأنهم تركوا قول اللّه تبارك وتعالى وأخذوا بالظن والشبهات.
[الإيمان الثابت والبرآءة من الفساق]
واعلم أنه من كان له إيمان عند اللّه ثابت مثل إيمان النبيين صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين كان من رفقائهم، إن اللّه تعالى يقول: {وَمَنِ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: 69].
ولكن أهل البدع خصمهم أهل الحق بالقرآن حتى لبسوا عليهم أمرهم، وَظَهَرُوا عليهم بكتاب اللّه تعالى.(1/46)
وإن أهل البدع والباطل إذا ذكر لهم فاسق من أهل القبلة ممن يعمل بالمعاصي التي أوجب اللّه تعالى بها النار، فشهد عليه المسلمون أنه إذا أدخله اللّه النار كان كافراً، وبرئ أن يكون مؤمناً؛ يقولون: فإن الله تعالى يقول: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون: 1-6]، فإنهم سيقولون لك أَتَبْرَأُ مما كان يعبدُ هؤلاء الذين من أهل القبلة إذا أدخلهم اللّه تعالى النار؟ فقل: إني لا أتبرأ من الذي كانوا يعبدونه، ولكني أَتَبَرَّأُ من عملهم الذي أدخلهم اللّه تعالى به النار.
وإنما نزلت (قل يا أيها الكافرون) في أصحاب عبادة الأوثان، في اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فنهى اللّه محمداً صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعبدها، وأمره أن يعبد اللّه وحده ولا يشرك به شيئاً.
وقال إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 75 ـ 77] فبرىء من عبادة أوثانهم ولم يتبرأ من ربه حين عبدوه، ولكنه تولى اللّه تبارك وتعالى وأطاعه.
وقال إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِِ}[الزخرف: 26 ـ 27]، وقال أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}[الكهف: 16] فاعتزلوا قومهم في عبادة الأوثان، ولم يعتزلوهم في عبادة ربهم.
وقال جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف: 106] فلا نَبْرأ من إيمان المشركين بالله، ونبرأ من شركهم بالله.(1/47)
فكما لم ينفع المشركين [عمل] مع شركهم بالله، كذلك لم ينفع عمل من كان من أهل القبلة يدعي الإسلام يأتي الكبائر التي نهى اللّه تبارك وتعالى عنها، فأحبط اللّه إيمانه حين لم يقبل منه عملاً، فإنه إذا عمل بالكبائر لم يكن من المتقين.
وقال اللّه تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].
وقال اللّه تعالى:{ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63].
وقال تعالى لمن حج بيته: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة:203] فلم يتقبل اللّه تبارك وتعالى حجاً ولا عملاً إلا من المتقين.
وقال تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأعراف: 169].
ومن قرأ القرآنَ فزعم أن اللّه تبارك وتعالى يغفر له أو لأحدٍ من أهل القبلة كبيرةً من الموجبات أتاها بغير توبةٍ، وأن اللّه تبارك وتعالى يُدْخِلُه الجنة بغير عمل يرضى به اللّه تعالى، فقد افترى على اللّه عز وجل، وقال غير الحق، وشك في قول اللّه تعالى، واعتلج الحق والباطل في قلبه، فلم يدر أيهما يتبع، فهو في لبس من دينه يتردد في ضلالِه.
[الإيمان الذي يستحق صاحبه دخول الجنة](1/48)
وإن أهل البدع والباطل سيقولون لك إن خاصمتهم: أتشهد على نفسك بأنك مؤمن؟ يريدون بذلك عيبك. فإذا سألوك، فقل: نعم.
فإنهم سيقولون لك: إنك قد شهدت على نفسك أنك من أهل الجنة، وأنك تقول: إن اللّه تبارك وتعالى لا يدخل مؤمناً النار.
فإذا سألوك عن نفسك، فقل: أنا مؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتاب، وأنا مستكمل الإيمان بالقول والصفة.
والإيمان حقيقته: العمل، فمن لم يُتِمَّ الإيمان بالعمل بطل قوله وصفته، وكان من أهل النار.
فإنهم سيسألونك عن نفسك، فقل: هو أعلم بمن اتقى. وأنا أحد رجلين: إما أن أكون أعمل فيما بيني وبين ربي بالخيرات، فما كنت لأحَدِّثكم بعملي، وإما أن أكون رجلا مذنباً فيما بيني وبين ربي، فما كنت لأَهْتِكَ سِتْرَ اللّه عَلَيَّ، ولكن سلوني عن غيري ممن هو مستكمل الإيمان بالقول والصفة والعمل الصالح، فأشهد لكم أنه من أهل الجنة، ولكن سأرُدُّ عليكم قولكم فتضيق عليكم الأرض بما رحبت ولا يكون لكم بد من الجحود.
فإن اللّه تعالى قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 2 ـ 4] فإنهم يقرون بالآية الأولى ويشهدون على أنفسهم، ويجحدون بالآية الأخرى، يقولون: لا ندري. لا يشهدون على أنفسهم أن لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. فإذا هم قد دحضت حجتهم والتبس عليهم أمرهم، ذلك بأن اللّه يقذف {بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 18].(1/49)
وقال اللّه تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}[البقرة: 177]، فقل: أتشهدون أن اللّه تعالى سينجز وعده في هؤلاء ويدخلهم جنات النعيم، فإنهم سيقولون: نعم.
وسلهم عن رجال قالوا: آمنا بالله والملائكة والكتاب والنبيين، يشهد أنه حق من اللّه تعالى، وهم يسعون في الأرض الفساد، ويقتلون النفس التي حَرَّم اللّه تبارك وتعالى بغير الحق، ويأخذون الأموال، ويزنون، ويشربون الخمور، ويضيعون الصلوات الخمس، ويتبعون الشهوات. فقل لهم: أتشهدون أن هؤلاء سيلقون غَيّاً، أوْ تَشْهَدون أنهم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين؟!
فإن قالوا: هم من الذين يلقون غَيّاً، فقد صدقوا على اللّه تعالى، وإن قالوا: هم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين، فقد كذبوا على اللّه تعالى، وبدلوا قوله. وإن اللّه تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ}[يونس: 32].(1/50)