واعلم ـ يا بني ـ أن جميع من قص الله عليك نبأه في كتابه من المخاطبين الأنبياء عليهم السلام فمن دونهم مقرون بالذنوب، معترفون بها، مستغفرون الله سبحانه من جميع ذلك، وفي أقل مما ذكرت أكثر الحجج، وأبلغ الكلام، وأجمل الموعظة، وأحسن الهداية عند من عقل وأنصف.

[حجج العقل لأهل العدل والتوحيد]
ومن أكبر الحجج عليه ما يصح ويثبت عند أهل النُّهَى أنهم زعموا أن جميع ما في الأرض من خير أو شر الله قضاه وأراده وشاءه وقدره، وفي الأرض من يقول إن الله ثالث ثلاثة، وأن له سبحانه ولداً وصاحبة، ومنهم من يقول إنه لا رب ولا خالق، وأن الأشياء لم تزل كذا: ليل ونهار، وشمس وقمر، وسماء وأرض، ومطر وصحو، وموت وحياة، ومن ينكح أمه وابنته واخته وعمته، وكل ذي رحم محرم عليه، ويأتي كل قبيح من الفعل رديء، ويغشى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويقول إن ذلك من الله ومن قضائه وإرادته ومشيئته، وأن كل عامل عمل منه شيئاً فبأمر الله ورضاه وإرادته.(1/31)


فيا سبحان الله!! ما أعجب هذا من قول وأشنعه، وأحمق من زعم أن أحداً (ما([10])) يعمل شيئاً مما ذكرنا لله عاص، وما أجهل من ذكر المعصية، كيف تكون المعصية عندهم؟ ومن صلى ومن زنا كلاهما مطيع لله قضى لهذا بالصلاة، وقضى على هذا بالزنا، فكل من عمل شيئاً من الأشياء حسناً أو قبيحاً، إيماناً أو كفراً، أو غيرهما من الأشياء كلها ففاعل ذلك الشيء مؤد لأمر الله وقضائه مستعمل نفسه في أداء مشيئته وإرادته، فليس على وجه الأرض عاص، ولا تعرف المعصية من الطاعة، ولا يعرف من يقع عليه اسم الطاعة، ولا اسم المعصية، ولا من يستحقه، وكيف يكون من سعى في إرادة الله عاصياً؟! لا يعرف هذا الكلام في شيء من لغة العرب ولا العجم، ولا إسم المعصية التي ذكرها الله في كتابه، وسمى قوماً عصاة، وسمى من عمل به عاصياً، وبطل كل ما جاء في الكتاب من ذكر ذلك، على قولهم وقياسهم، وكل ما جاء لغير معنى إلا أن تكون المعصية غير هذه الأشياء كلها التي نعرفها ونعقلها مكنونة عند الله لم يبينها لنا، ولم يشرحها ولم يدلنا عليها، غير أنه قد حذرنا العصيان ولم يعرفناه، وعرفناه وعرفنا الإحسان والطاعة وحدهما، فنحن للعصيان منكرون، إذ كان أكبر الفواحش هي التي عددنا، وهي عند أهل القبلة أشد الكفر، وقد سموها جميعاً كبائر من العصيان والذنوب.
وَزَعَمَ هؤلاءِ أنَّ الله شاءَها وأمَرَ بها وأرادها، فما كان سواها وسوى ما سموا كبائر فأَمره أقرب وهو أهون، ولا يرى معصية ولا عاصياً؛ إذ كان ما كان مضاداً لِما ذكرنا من الصلاة والصيام، والحج والإيمان، وجميع أعمال البر، الله شاءها وقضاها وأمر بها، فلا ترى بين الْمَنْزِلتين فرقاً ولا عنهما تأخراً، كلاهما فرض، وكلُ من عمل شيئاً من الفعلين فهو لله مطيع، والله بفعله راضٍ، وليس على وجه الأرض لله عاص، كلا الفريقين مجتهد في أداء ما فرض الله عليه.(1/32)


فلا بد لمن قال بهذه المقالة أن يبين المعصية، أين هي؟ وإلاَّ فهو مبطل مفترٍ على الله أقبح الكذب، فنبرأ إلى الله من هذه المقالة، وممن قال على الله بها، فبالله ([11]) إنَّ الأمر لواضح، وإن الشبهة في هذه المعرفة لبينة، وفقنا الله وإياك لأجمل الأقاويل وأحسنها وأليقها بالله؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فالله أحق بكل اسم حسن، وابعد من كل اسم قبيح من هذا الخلق الذي يقولون عليه بهذا القول الذي يبرئون أنفسهم منه ويزعمون أنه لو كان منهم كان أكبر الظلم.
وزعم هؤلاء القوم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يدعون عباد الله إلى عبادة الله، ولعمري إن ذلك كذلك، قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال موسى وهارون عليهما السلام، لفرعون لعنه الله: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه:47]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، معناها: ويزيدون ؛ لأن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية، ولا تعروه سنة ولا يدخل [عليه] شك، وهذا في أشعار العرب كثير، قال الشاعر:
فلو كان البكاء يرد ميتاً
بكيت على عمير أو عقاق

ثم قال مبيناً أنه يبكي عليهما جميعاً في البيت الثاني:
على المرئين إذ هلكا جميعاً

لشأنهما بحزن واحتراق(1/33)


فأقام (أو) مقام (الواو)، وكذلك قال عز وجل: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14]، فإذا كان الأمر على ما قال هؤلاء الظالمون، إن الله تبارك وتعالى قضى على قوم بالمعصية لا يقدرون يعملون غيرها ولا يخرجون منها إلى شيء من الطاعة، ولا من أعمال البر، وقضى على آخرين بالطاعة له وبالعمل بما يرضيه لا يقدرون يخرجون من الطاعة إلى العمل بشيء من المعصية، ممنوعاً من ذلك الفريقان، وكان مستعملاً فيما حتم في رقبته وقضى عليه لا يطيق الخروج منه إلى غيره، فإلى من أرسل الله الأنبياء والمرسلين، وإلى من دعوا، ومن خاطبوا، وعلى من احتجوا؟ أم من تبعهم وأطاعهم؟ أم من كانت حاجة العباد إليهم؟ أم ما كان المعنى عند الله سبحانه في إرسالهم؟ أتراه أرسلهم عبثاً أم سخرياً؟ أم بياناً وتوكيداً للحجة على العباد وتوقيفاً؟(1/34)


فإن كان سبحانه أرسلهم إلى قوم، وقد منعهم من طاعته، يدعونهم إلى الدخول فيها، وقد حال بينهم وبين ذلك ومنعهم، طالباً للحجة عليهم بلا حجة لازمة بينة، فهذا أكبر الظلم وأحول المحال، ليس أحكم الحاكمين يعبث ولا (يغلو([12])) ولا يسخر ولا يستهزي، ولا خلق الجنة والنار باطلاً، ولا أرسل المرسلين عبثاً، لو كان الله سبحانه على ما يقولون ما أرسل إلى خلقه رسولاً، ولا دعاهم إلى طاعة، ولا دلهم على ما يرضيه مما يسخطه، ولا احتج عليهم بالآيات المعجزات، ولا بالبراهين الواضحات التي عجز عنها جميع الكهنة والسحرة، والفراعنة وشياطين الإنس والجن، فلم يقدروا أن يأتوا منها بشيء، مثل التسع آيات التي كانت مع موسى عليه السلام، والمعجزات التي جاء بها غيره من الأنبياء، كل هذا احتجاج من الله سبحانه على خلقه، ليطيعوا أنبياءه ورسله، ويجيبوهم إلى خلع الأنداد والأصنام والأوثان والآلهة المعبودة من دونه، ولكن الله سبحانه مكنهم وفوضهم، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ما هم قادرون عليه، ويندبونهم إليه ليخرجوهم بذلك من ظلمة الشرك إلى نور الإسلام. ألا ترى إلى قوله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، فلولا أن الله تبارك وتعالى قد علم أن عباده يقدرون على طاعة رسله ما أرسلهم إليهم، ولا أمر بطاعتهم ولا حثهم على أداء ما جاءوا به من فرائضه، وما دعوا به من اتباع مرضاته، وذلك لما مكنهم الله منه، وجعل فيهم من القوة والاستطاعة ليركبوا بها طبقاً عن طبق، تفضلاً منه عليهم، وإحساناً منه إليهم، وإكمالاً للحجة فيهم وعليهم لئلا يكون لأحد على الله حجة بعد رسله، وما شرع من فرائضه، وما دعا إليه من طاعته، وحذر من معصيته، وذلك(1/35)

7 / 9
ع
En
A+
A-