والقول عليه، ألا ترى إلى قول المذنب الذي جعل مع الله إلهاً آخر كيف يلزم الذنب غير ربه؟ وكيف لم يقل: أمرني ربي أن أجعل معه إلهاً غيره؟ ثم قال: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}، أفترى أن هذه الصفات القبيح وصف الله بها نفسه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثم قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام:137]، أفترى الله سبحانه([6])) أراد بذكر الشركاء غيره من المغوين أم نفسه بهذا التزيين؟ فإن كان شركاؤهم هم غيره، فقد برأ نفسه سبحانه أن يضل ويزين شيئاً (من المعاصي لأهلها، وإن كان هو الشركاء فقد عنى إذاً نفسه([7])) بهذا القول، وهذا غير معروف في اللغة، يذكر غيره ويخاطبه وهو يريد بالذكر نفسه، هذا محال في القول لا يقبله العقل.
وانظر إلى قوله: فيما يحكيه عن الهدهد، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل:24]، ولم يقل زين الله لهم السجود للشمس، ولا أنه صدهم عن السبيل.(1/26)


وكل نبي أو غيره ممن عقل يبرئ الله سبحانه من الذنوب ويستغفره منها، ويسند الخطأ فيها إلى نفسه، ألا ترى إلى قوله سبحانه لموسى صلى الله عليه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17)فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18)وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى(21)ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى(22)فَحَشَرَ فَنَادَى(23)فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى(25)} [النازعات]، أفترى الله تبارك وتعالى الذي أضل فرعون وأدبره عن الطاعة، ومنعه أن يتزكى، وأمره بالتكذيب والعصيان، وأن يدَّعي أنه الله الأعلى، وقد فطره الله على ذلك وحمله عليه، ثم أرسل إليه موسى صلوات الله عليه، يدعوه إلى أن يهتدي ويتزكى، وقد منعه منهما، وفطره على غيرهما، وحال بينه وبين العمل بهما، ثم يرسل إليه من أرسل، وأنزل به العذاب عندما كان من سعيه في طاعة الله وأمره؟! هذا أكبر الظلم وأقبح الصفة في المخلوقين، تعالى الله عما أسند إليه الجاهلون من هذه المقالة الفاسدة الضالة.
ألا ترى إلى قول الله سبحانه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]، ينسب الضلالة إلى فرعون والإضلال، ويبرئ منها نفسه.
وانظر أيضاً إلى قوله عز وجل: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة:175]، يقول سبحانه: استحبوا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، ممثلاً في ذلك بالبيع والشراء ؛ لأنه في كلام العرب هذا المثل.(1/27)


وانظر أيضاً إلى قوله في ابن آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:30]، ولم يقل سبحانه: قدرته ولا قضيته عليه، ولا أمرته ولا رضيته منه، بل برأ نفسه من فعله، وألزم المعصية أهلها وفاعلها، ألا ترى إلى قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أخبر أن ذلك الفعل من نفسه لا من غيرها.
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى، يحكي عن نوح صلى الله عليه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، أفتراه قضى هذا القول على نوح، ثم عابه عليه وعنفه فيه، فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، وانظر إلى تَنْزِيه نوح عليه السلام لخالقه من ذلك، وإلزامه الذنب نفسه، فقال عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47]، فأخبره أن هذه المسألة منه، فاستغفر منها (ولم يقل إنه قضاؤك وقدرك عليَّ، ولو كان قضاء الله عليه ما استغفر منها([8]))، كيف يستغفر الله من فعله؟ إنما يتوب العباد إلى الله ويستغفرونه من أفعالهم لا من فعله، كذلك كل فاعلِ قبيحٍ يتوب منه ويستغفر ربه من فعله، ولا يستغفر ربه من فعل غيره، ولا يُلزم الله من فعل غيره شيئاً.(1/28)


وانظر إلى قوله عز وجل لنبيه عليه السلام: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، أفترى الله سبحانه نهى نبيه عليه السلام عن شيء هو يريده، وقد قضى عليه فعله، وأمر نبيه بترك شيء لا يقدر على تركه؟ لو كان ذلك كذلك ما نهاه عنه، لعلمه أنه لا يقدر على تركه، وكثير في كتاب الله عز وجل مما نهى عنه أنبياءه وعابه عليهم وعاتبهم عليه، أفترى الله سبحانه عاب ذلك عليهم، وكرهه من أفعالهم، وهم لا يجدون إلى الخروج سبيلاً؟ أو عاتبهم عليه وهو يعلم([9]) أنهم يطيقون رفضه والخروج منه، فكذلك عاتبهم عليه وذمه من أفعالهم.
وانظر إلى ما يقول لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، أفتراه نهاه عن شيء يقدر عليه، أو عما لا يقدر عليه؟ فإن كان نهاه عن شيء يقدر على تركه فالحجة لله سبحانه قائمة على خلقه، وإن كان نهاه عن شيء لا يقدر عليه فليس لله على خلقه حجة، إذ كانت حاله كحالة من يُدعَى إلى ما لا يطيق، وكلف ما لا يقدر عليه، وعذب بذلك مظلوماً، وكيف يكون ذلك كذلك والله سبحانه يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، فأين الرحمة ممن كلفهم ما لا يطيقون، وافترض عليهم ما لا يقدرون على تأديته، لمنعه لهم منه، وحجزه إياهم عنه؟ كذب من قال على الله بهذا القول وخاب في الدنيا والآخرة.(1/29)


ألا ترى كيف يخبر عن تمكينه لعباده وتخييره لهم وعن تخيره لهم، وعن الإستطاعة والقدرة التي مكنهم بها من العمل للطاعة والمعصية، فقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65]، ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة:66]، ثم قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
فانظر إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ}، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى}، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، {ولو أنهم فعلوا}، وهذا في القرآن كثير يدل عند أهل اللغة والمعرفة والنصفة على أنهم ممكنون مفوضون قادرون على ما أمروا به من العمل به والترك لما نهوا عنه، وكثير مما في كتاب الله عز وجل يشهد لنا بما قلنا، كرهنا بذكره التطويل عليك.
فميز يا بني، علمك الله، ما قد شرحت لك من هذا القول، وتدبر ما حكيت لك من قول الكذابين على الله، يبن لك الصدق، وتعلم الحق ؛ لأنه واضح مبين لا يخفى على أهل المعرفة والعقل؛ لأن العقل أكثر حجج الله سبحانه على عباده، ولذلك لم يخاطب إلا ذوي الألباب والعقول، وإياهم قصد بالأمر والفرض والنهي، وأسقط جميع ذلك عن المجانين والصبيان الذين لا عقول لهم، فسبحان البر الرحيم بعباده، المنصف لهم، المتفضل عليهم بالإحسان، الدال لهم على الإيمان، المبتدي لهم بالنعمة قبل استحقاقها، المعافي لهم من النقم بعد وجوبها.(1/30)

6 / 9
ع
En
A+
A-