وقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]، أفتراه لم يجعل فيهم مقدرة على التقدم ولا على التأخر، وهو يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}، ثم قال: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وقال: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، فلو كان الأمر على ما يقول الجاهلون ما كان إليهم تقدم ولا تأخر ولا احتاجوا إلى بلوى، ولا لينظر عملهم، فكان بكل ما يدخلهم فيه عالماً أنهم لا يقدرون على غيره، وأي مشيئة لهم حين يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}؟ وكيف لهم بالتقدم والتأخر وقد منعهم من ذلك وحال بقضائه وحكمه عليهم بينهم وبين ما أمرهم به من التقدم والتأخر، ومعنى ننظر أي نحكم عليكم بما يكون من خبركم، وكتاب الله كله على ما ذكرت من ثواب الله لعباده، وعقابه لهم كل بما كانوا يعملون، وبما كانوا يكسبون، وبما كانوا يجحدون، وبما كانوا يصنعون، لم يقل عز وجل في شيء منه: بقضاي عليكم، ولا بمشيئتي ولا بإرادتي، ولا بقدرتي فيكم، ولا بإدخالي لكم في الطاعة، ولا بإخراجي لكم من المعصية. كل هذا بَيَّنَ أن ثوابه وعقابه على عملهم، والكتاب كما قلنا يصدق بعضه بعضاً، ليس من كتاب الله شيء ينقض شيئاً ؛ لأنه من حكيم عليم، ولولا ذلك لكان فيه الإختلاف، كما قال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)} [الشمس:10]، فكيف يقضي بالفواحش، ثم يقول: قد خاب من دساها، أفتراه خيب نفسه؟! تعالى عن ذلك علواً كبيراً.(1/21)
ثُّمَّ قالوا: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص:61]، وتعالى عن أن يقول هذا لنفسه، ولكن قدمه شياطين الإنس والجن، ألا ترى إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67]، اعترافاً منهم بذنوبهم، وأن عملهم وما نزل بهم من العقوبة كان بطاعتهم لسادتهم وكبرائهم، ولم يقولوا ـ وقد احتاجوا إلى الحجة لعظم ما نزل بهم ـ: ربنا أطعناك واتبعنا قضاءَك وأمرك، وما قدرت لنا، ولو كان ذلك ما تركوا قوله لما لهم فيه من الحجة على الله سبحانه، والسبيل فهو سبيل القصد والخير، ألا ترى كيف يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، يقول: دللناه على سبيل الخير، فإن شكر فذلك واجب عليه ولنفسه يعمل ويمهد، وإن كفر بما قلنا به فذلك راجع ضرره عليه، وإن الله غني حميد عن شكره، وإنما ثواب شكره راجع عليه، ونافع له.
وقال سبحانه: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]، أفترى الله سبحانه أراد بهذا القول نفسه إن كان في قولهم هو المضل لعباده؟ سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. ما أفحش ما يسندون إلى الله!!.(1/22)
ألا ترى إلى ما يقول آدم عليه السلام، عند ما كان منه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، أفترى آدم عليه السلام استغفر ربه من قضائه عليه وقدره وحتمه لمعصيته عليه أم من ذنب عمله هو من نفسه، والله بريء منه؟ أو ترى أن الله نهاه عن أكل الشجرة، وقد قضى عليه أكلها وحتمه في رقبته، ولو كان ذلك كذلك ما أقر عليه السلام على نفسه بالخطيئة، ولقال: هذا قضاؤك علي ومشيئتك، وإنما أخطأت وأكلت من الشجرة، ولولا قضاؤك ومشيئتك ما قدرت على أكلها، فلعلمه بالله أقر صلى الله عليه أن الخطيئة كانت منه، وبرأ ربه منها، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
وكذلك قال موسى عليه السلام لما وكز الرجل فقضى عليه، فقال موسى عند ذلك: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، ولم يقل: هذا من قضاء الله علي، ولا من تقديره فيَّ، ولا من إضلاله لي، فبرأه سبحانه من ذلك، ونسبه إلى الشيطان وإلى نفسه، فقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16].
فهذا قول أنبياء الله يلزمون أنفسهم الخطايا، ويبرئون من ذلك خالقهم، والجهال يبرئون أنفسهم من ذلك ويلزمون الذنوب خالقهم.
وانظر إلى قول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، أفترى الله سبحانه يعني نفسه بذلك أم يعني مجترم الذنب؟ تعالى الله من أن يضل أحداً أو يكون له أحد قريناً.(1/23)
ثم أخبر عن كفرهم وقولهم الكذب على الله، وأنه غير راض بذلك، فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(152)} [الصافات:152]، أفترى الله أمرهم بالكذب عليه وقضاه عليهم ثم تبرأ من شيء هو فعله، ورمى به غيره سبحانه ألا ترى كيف يقول عز وجل: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112]، أفترى الله عز وجل بهتهم بما لم يفعلوا، وظلمهم بما لم يعملوا، ووصف نفسه باحتمال البهتان والإثم المبين؟ كذب من قال على الله بهذا القول.
وقال تقدست أسماؤه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر:41]، فبين لهم أنه بريء من فعلهم، وأنه إنما يجزيهم بما يكون فيهم بعد التبيين لهم، والترغيب والتحذير: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]، أي من أهلك نفسه بالمعصية بعد ما عرفها فهو الهالك المهلك لها ؛ لأنه مدخل لنفسه فيها، ومن أحياها بالطاعة فقد عرف طريق الطاعة بما قلناه من تعريف الله لهم الطريقين، وهدايته لهم النجدين، لكيلا يكون لأحد على الله حجة.
ثم قال عز وجل: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، أفتراه يعني نفسه بهذا السحت؟! ثم قال: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171]، أفترى الله نهاهم عن قبيح اللفظ به وهو أمرهم به؟ وكره منهم أن يقولوا: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وهو قضاه عليهم وشاءه منهم، وأراده لهم؟! جل الله عن هذه الصفة المشبهة لصفات اللعابين المتلعبين.(1/24)
وقال أيضاً لنبيه عليه السلام: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، أفترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حرم ما أمر الله بتحريمه، وقدره عليه وقضاه له ثم يستخبره عن ذلك التحريم فينهاه عنه ويعاتبه فيه، ويعيبه عليه، وهو الذي أدخله فيه وقضاه عليه؟! معاذ الله أن يكون هذا أبداً، لكن هذا التحريم كان من فعل محمد لا من فعل الله، ألا ترى إلى أمر الله سبحانه له بترك ما لم يرضه من فعله في ذلك، وأمره أن يرجع إلى ما أحل له، ويكفر يمينه، فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]. ثم قال سبحانه: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ(23)أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25)الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26)} [ق:23ـ 26]، ثم قال سبحانه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ(27)قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28)مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(29)} [ق:27ـ 29]، وقال: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ}، أفترى الله سبحانه الذي أضله وأمره أن يجعل معه إلهاً آخر ثم يقول (ألقياه يعني: الضال والمضل)؟، أفتراه أراد بهذا نفسه، إذ كان في قولهم أنه المضل لهم والمدخل لهم فيما دخلوا فيه من خير وشر، فكيف وقد تبرأ في آخر الآية، فقال: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ}، ولم يقل سبحانه: لا تخاصموني ولا تحتجوا عليَّ ؛ لأنهم لم ينسبوا إليه شيئاً من الظلم ولا من الضلال لهم، ولا من إدخالهم في شيء مما نهاهم عنه، وإنما نسب ذلك بعضهم إلى بعض، ولو نسبوا إليه كانت الخصومة معه لا مع غيره، وكانت الحجة لهم،(1/25)