ومما يحتجون به أيضاً، قول نوح عليه السلام لقومه عندما جادلهم في الله، فأكثر، فقالوا: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32]، فقال نوح عليه السلام: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:33، 34]، يقول لهم صلى الله عليه: إن جدالي ونصحي لا ينفعكم إذا جاءكم عذاب ربكم ونزل بكم ؛ لأنه لا يرد عذاب الله سبحانه إذا نزل بقوم، وهي سنته في الذين خلوا، لا يقبل توبتهم إذا نزل العذاب بهم، وكذلك إذا أراد الله أن يغويكم، فالإغواء من الله العذاب، فيقول: لا ينفعكم نصحي إذا نزل بكم إغواء الله وهو عذابه، كما قال عز وجل في موضع آخر: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، ولم يرد نوح عليه السلام بالإغواء ما تأوله الجاهلون من الضلال لهم وإمدادهم بالغي والتمادي والكفر، وإنما أراد بالإغواء العذاب النازل، ثم كذلك الإغواء في جميع ألسن العرب: لقيت غياً، أي عذاباً وبغياً، ولقي فلان غياً، كل هذا تحذير لهم لنزول العذاب بهم، وأنه لا تنفعهم نصيحة إذا نزل العذاب بهم، لم يصرف عنهم، كذلك قال الله سبحانه: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85]، وكثير مثل ما ذكرنا في القرآن مما احتجوا به وتأولوه على غير ما أنزل الله، وفي فساد ما أفسدنا عليهم من تأويلهم فيما ذكرنا واحتججنا عليهم به ما يغني عن كثير من حججهم وقبيح تأويلهم وباطل قولهم.(1/11)
[ما يستدل به أهل العدل على أهل الجبر]
وقد قال الله سبحانه محتجاً على من نسب مثل ما نسبوا إليه في كثير من القرآن، وفي مواضع هي أكثر مما احتجوا به وتأولوه، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، وقال عز ذكره مكذباً للمشركين ولمن قال بقولهم، ومحتجاً عليهم ومخبراً بإفكهم وعوارهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، ثم قال عز ذكره: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115]، ينفي عن نفسه عز وجل ما أسندوا إليه من خلقهم شقياً وسعيداً، ومن أن يضلهم بعد أن كان منه من الإبتداء لهم بالإحسان والدعاء، والدلالة على الهدى، وعلى ما يحب وعلى ما يكره، وما يحذرون، وما يتقون، فإذا تبين لهم ذلك، فصدوا عنه حقت عليهم كلمة الضلال، وحاق بهم الإضلال من الله بذنوبهم ودنيء فعلهم. ثم نسب من نسب إليه هذا القول وقال به عليه إلى قول الذين أشركوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:148، 149]، يقول: مثل هذا القول قاله الذين من قبل هؤلاء حتى نزل بأسنا وذاقوه، وذلك أنهم(1/12)
كانوا يعملون الخبائث والمعاصي، فإذا نهوا عنها وقال لهم أنبياؤهم ومن يتبع الأنبياء: لا تفعلوا، ولا تعصوا ربكم، قالوا: لو شاء ما أشركنا، ولكنه أدخلنا في المعصية وقضاها علينا، فأخبر الله عز وجل أن ذلك ليس كذلك، وأنهم كانوا في ضلال وتكذيب لمن يقول لهم إن الله لم يأمرهم ولم يقض عليهم بالمعصية حتى ذاقوا بأسه وهو عذابه، وتبرأ من ذلك، وعلم أنه لو كان شاء لهم الإشراك ما نزل بهم بأسه، ثم قال محتجاً عليهم: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، يقول: من علم عن الله فبينوا لنا أن هذا الفعل والقول والمشيئة من عند الله، ثم قال مكذباً لهم أيضاً: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148]، يقول: إن يتبعون إلا أهواءهم بما يظنون، وإن هم إلا يخرصون، أي يكذبون في قولهم على أنه شاء لهم ومنهم الكفر، وأنه لو شاء ما أشركنا، ولكنه أدخلنا فيه ومنعنا من الدخول في الطاعة، ثم قال: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، يقول: فلله الحجة بما قدمه إليهم ودعاهم إليه، وأنذرهم على ألسن رسله صلوات الله عليهم، ثم قال: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، يعني يجبركم جميعاً على الهدى، ولكنه لم يشأ ذلك إلا بالتخيير منكم والإختيار له، وكذلك أرسل إليكم الرسل، وأمركم بطاعتهم وحذركم معصيتهم، ولو شاء لكم الإيمان بالجبر منه والإكراه والمنع لكم ما احتاج أن يرسل إليكم رسله ولا يدعوكم إلى طاعته ؛ لأنه إذا أجبركم على ما يريد ولم يمكنكم ولم يفوضكم ولم يجعل لكم إرادة ولا قوة ولا استطاعة فهو الذي يجبركم على ما يريد، ولا خيار لكم ولا حاجة له ولا لكم إلى الرسل، ولا إلى الدعاة ؛ لأنه قد أشرككم فيما يريد من خير وشر، ومن كانت هذه حاله فإنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، غير ملوم في عمل الشر، ولا محمود في عمل البر ولا حجة(1/13)
عليه ؛ فإن عذب على قبيح فقد ظلم، وإن أثيب فلم يستأهل ثواباً على جليل الطاعة، وليست هذه الصفة من صفة الحكماء، ألا ترى إلى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56، 57]، فأخبر سبحانه أنه لم يخلقهم إلا لعبادته، ولم يخلقهم لمعصيته، ولم يشق ولم يسعد ولم يجبر، ولم يطبع أحداً على شيء من هذا، ولم يسم مؤمناً ولا كافراً إلا بإيمانه وكفره وفعله، لا بخلقه عز وجل ؛ لأنه ليس بظلام للعبيد، ولو طبعهم على شيء من هذا ؛ كان المحسن غير محسن، والمسيء غير مسيء ؛ لأن كل من فعل به شيء وأدخل فيه غصباً كان غير محمود عليه، ولا مذموم فيه، وكان المحسن ليس بأحق باسم الإحسان من المسيء ولا المسيء بأحق باسم السواية من المحسن، والتبس الأمر فيما بينهما، وأمكن لكل أن يدعي ما أحب، لو قال المسيء: ((أنا محسن)) لأمكنه ذلك، ولما عرف المسيء من المحسن على قولهم وقياسهم، ثم قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، يقول: يعمل، ولم يقل: عملت به وقضيت عليه، وإنما كان أهل الكتاب، يعني اليهود وغيرهم من أهل الكتاب يقولون: ليس يعذبنا الله، نعمل ما شئنا، نحن أبناء الله وأحباؤه، فأكذبهم الله وأعلمهم وغيرهم أنه لا يظلم أحداً، وأنه من عمل شيئاً جزي به.(1/14)
ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ(29)} [إبراهيم]، يقول: بدلوا ما أنعم الله به عليهم من إرسال الرسل والدعاة، والدلالة على الخير كفراً بذلك، أي جحدوا به، ودعوا الناس إلى المعصية والكفر به وأحلوهم. ثم قال مخبراً لهم محتجاً عليهم: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، والله أعدل وأحكم من أن ينهى عن شيء وهو منه، أو ينهى عبداً عن شيء قد أراده، أو عن شيء لا يقدر على عمله أو على الخروج منه، أو يأمرهم بشيء لا يمكنهم الدخول فيه، ولم يكلف الله عباده إلاَّ ما يقدرون عليه ويطيقونه برحمته ورأفته وفضله، وكل ما نهى الله عنه فليس منه ولم يشأه، ألا ترى إلى قوله عز وجل: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، معنى الكفر هاهنا: الجحود له ولنعمه وفضله عليهم الذي ابتدأهم به، وإن يشكروا أي يطيعوا فيعملوا بطاعته يرضى ذلك الفعل منهم ويثيبهم عليه.
ثم قال أيضاً: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، يخبر عز ذكره، ويبين أن الذنوب من العباد بالاختيار والاستحباب منهم، وأنه قد هداهم فاستحبوا الكفر وآثروه على ما فعل بهم من الهدى، ثم قال: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)} [الأعلى:3]، أي ابتدأ الخلق بما ذكرنا من الدلالة لهم على الخير والهدى.(1/15)