ويبشرهم بالثواب؟! هذا أحول المحال.
[معنى {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}]
واحتجوا أيضاً بقوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فصدق الله، لولا أنه يشاء لهم التعريف بالإيمان والكفر، ودلهم على ما عرفوه فعرفهم به، وأرسل إليهم المرسلين وحضهم على اتباعهم، ما عرفوا الإيمان من الكفر، والرضى من السخط، ثم قال في ذلك: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:26]، فهذه إرادة الله ومشيئته في خلقه، لا ما قال به الجاهلون.

[معنى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}](1/6)


ومما احتجوا به أيضاً: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، فتأولوا ذلك على أحكم الحاكمين بأقبح التأويل، ولعمري لو نظروا ما في الآية من قبل هذا الكلام لأسفر لهم الأمر ولعرفوه، ألا ترى كيف يقول سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]، يخبر عز ذكره أن ذلك الشقاء والسعادة إنما تكون في ذلك اليوم يعني يوم القيامة لا أيام الدنيا، ولعمري إن يوم القيامة ليوم التغابن والحسرة والندامة، فمنهم ذلك اليوم شقي وسعيد، شقي قد شقي بعمله وبما وقع عليه من حكم الله له بالعذاب، وسعيد قد سعد في ذلك اليوم بعمله وبما قد حكم الله له به من الثواب، والشقي أشقى الأشقياء من شقي في ذلك اليوم، والسعيد أسعد السعداء من سعد في ذلك اليوم، وإنما أخبر الله سبحانه عن شقائهم وسعادتهم في ذلك اليوم، لا في الدنيا، ألا ترى كيف يقول: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، يعني يوم القيامة، ولو كان الأمر على ما ظنوا لكانت المخاطبة عند أهل اللسان، والمعرفة على غير هذا اللفظ، وكان اسم الشقاء والسعادة قد انتظمهم قبل ذلك اليوم، وكانوا مستغنين عن إرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ولم يكن لله سبحانه عليهم حجة إذ كان المشقي لبعض والمسعد لبعض، والمدخل لأهل الشقاء في المعصية، ولأهل السعادة في الطاعة. هذا أقبح ما نسب إلى الله وقيل به فيه، فنعوذ بالله من الضلالة والعمى، ونسأله الرشد والهدى.

[معنى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا...}](1/7)


ومما يحتجون به أيضاً، قول الله سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، يقول: بفعلهم وعملهم حق عليهم قولي وثبتت عليهم حجتي ووقع بهم العذاب ؛ لأن قولي وحكمي بالعذاب قد سبق مني على من عصاني، ثم قال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(14)} [السجدة:14]، فصدق الله عز وجل لو شاء أن يهديهم جميعاً من جهة الجبر لهم، لفعله ولم يغلبه ذلك، ولكن لم يشأه سبحانه إلا بالتخيير والإختيار ؛ لأنه لو جبرهم على ذلك وأدخلهم فيه غصباً كان المستوجب للثواب دونهم، ألا ترى إلى قوله في آخر الآية متبرئاً من فعلهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، ولم يقل: بمشيئتي لكم، ولا: بقضائي عليكم، ولا بإرادتي فيكم، ولا: بإدخالي لكم في القبيح من الفعل.
فافهم، وفقك الله، ما شرحت لك.

[معنى النسيان من الله تعالى]

والنسيان من الله، هو الترك لهم والإمهال، تقول العرب: نسيت الشيء ونسأته أي: تركته ولم أفعله.

[معنى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا...}](1/8)


ومما يحتجون به أيضاً قول الله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)} [يونس:99]، فصدق الله، لو شاء ذلك لأمكنه أن يكرههم على الإيمان إن شاءوا أو أبوا، ولم يكن ذلك بغالب له، ولا ما هو أعظم منه؛ إذ كان ذلك معجزاً وغالباً لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا يقدر على ذلك منهم، ولا يمكنه فيهم، فأخبر الله سبحانه أن مالا تقدر عليه لو أراده هو من جهة الجبر والإكراه ؛ لأمكنه، ولكنه لم يرده إلا من جهة التخيير منهم والإختيار والرغبة لما استوجبوا بذلك الفعل بثوابه وعقابه.
فافهم ذلك وميزه إن شاء الله.

[معنى: {قل كل من عند الله}](1/9)


ومما يحتجون به قول الله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، فصدق الله عز وجل في قوله، غير أنهم لم يفهموا التأويل ؛ لأنه يقول سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، وليسوا من أولئك، وإنما أراد الله عز وجل أن ينقض على الكفار قولهم ؛ لأنه إنما كان الكفار إذا أصابهم مما يحبون من جميع الخير مثل: الخصب، وزكاء الزرع، وكثرة النسل، إبتداء لهم من الله بالإحسان، والمن، وتوكيداً للحجة عليهم والإنعام، قالوا: (هذا من عند الله)، وإذا أخذهم الله بشيء من فعلهم، وخبث نياتهم، وعظم جرمهم، وإكذابهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولما جاءهم به، وابتلاهم الله بنقص الخصب، وقلة المطر، والزرع، والنسل، قالوا: شؤم محمد، ومن معه. فأخبر الله سبحانه أن هذه الزيادة والنقصان في جميع ما ذكرنا من الله فقال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ثم شرح ذلك مبيناً للخبر: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78)مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78، 79]، يقول: ثواب من الله سبحانه لكم على ما كان من الطاعة، وخزي وعقاب منه سبحانه لكم على ما كان من أنفسكم من المعصية والعمل القبيح، وترك الإئتمار لأمره، فيقول: ما أصابكم من الزيادة فيه والصلاح فمن نعم الله عليكم وتفضله وإحسانه إليكم، وما أصابكم من نقصان ذلك وفساده فمن قبيح أعمالكم وسوء نياتكم، وإصراركم على المعاصي، وإنما دخل عليكم من أنفسكم لما فعلتم ما فعلتم حتى وجب (الشنآن([3])) عليكم بذلك الفعل من الله سبحانه، وهذا تفسير ما جهلوا من ذلك.

[معنى: {إنما يأتيكم به الله}](1/10)

2 / 9
ع
En
A+
A-