الكتاب : كتاب الرد على المجبرة

كتاب الرد على المجبرة
لنجم آل الرسول وإمام المعقول والمنقول
الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي عليهما السلام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، أحق ما افتتح به رد الجواب، وخوطب به ذووا الألباب، حمداً يوصل إلى جنته، ويوجب المزيد من فضله، فإليه أرغب في الصلاة على محمد، صلى الله عليه وعلى آله.
سألت يا بني، أرشدك الله ووفقك، وسددك للفهم وعلمك، عما اختلف فيه الناس، وكثر فيه عند أهل الجهالة الإلتباس، حتى نسبوا الله فيه إلى أقبح الصفات، وبرأوا أنفسهم من ذلك وصانوها بزعمهم عنه، واستقبحوه، وبلغوا أشد ما يكون من الغضب على من نسبهم إلى شيء منه، ورضوا به في العزيز، ودعوه به.
فزعموا أن الله شاء شيئاً ونهى عنه، وأراد شيئاً ومنع منه، وأنه أرسل رسله إلى جميع خلقه يدعوهم إلى أمر قد منعهم منه، وذكروا من هذا شيئاً وضروباً يكثر شرحها، وأنا مبين لك جميع ذلك وشارحه في مواضعه، ومحتج لله سبحانه بالبراءة مما نسبوه إليه وسموه به، يا بني، حتى يصح لك فساد أمرهم، وقبيح لفظهم بما فيه المنفعة والشفاء والبرهان، والإكتفاء من كتاب الله الفصيح وبما يصح عند كل ذي لب صحيح.
[مزاعم المجبرة ]
زعم أهل الجهل أن الله سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فكذلك الله عز وجل، وتأولوا ذلك بجهلهم على أقبح التأويل وأسمج المعاني، ولم يعلموا ما أراد الله سبحانه من ذلك، ولو ميزوا ما قبل هذه الآيات وما بعدها لتبين لهم الحق ووضح.
[الهدى والضلال]
فأمَّا ما قال الله سبحانه مخبراً عن قدرته:(1/1)


{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، ولم يقل أضللت ولا هديت في هذا الموضع ؛ لأنه ذكر الضلال والتثبيت منه في موضع آخر، فانظر كيف ذكر ذلك، وكيف قال ومن فعله، فقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، كل هذا التثبيت والضلال لم يكن إلا مادة وزيادة للمؤمنين وحرباً ونقمة للظالمين، ألا ترى كيف يقول: {الذين آمنوا} ولم يقل: ((الذين ظلموا؟)) غير أنه لم يثبت إلا المؤمنين والمستحقين اسم الإيمان بعملهم، ولم يضل إلا الظالمين المستوجبين اسم الضلالة بفعلهم.
ويخبر سبحانه عن قدرته في خلقه، وأنه أراد هدى المؤمنين وثَبَّتَهم، وأنه لا يغلبه شيء من جميع الأشياء إذا أراده من جهة الجبر والقسر لأهله، لكن الله سبحانه أخبر عن قدرته في خلقه، وأنه لو أراد أن يضلهم أو يهديهم جميعاً لكان ذلك غير غالب له، غير أنه لم يرد ذلك، إلا من جهة التخيير منهم والإختيار لعبادته والرغبة فيما رغبهم فيه والوقوف عما حذرهم منه، وليخبر الجهال أن ما كان من العباد من الضلال والعمى لو أراد أن لا يكون لأمكنه ذلك، وأن قدرته تبلغ كل شيء.
وإنما قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، خبراً عن نفسه، وإثباتاً له القدرة على كل شيء، لكي لا يظن جاهل أن الله عاجز عن أن يمنع الضُّلال من الضلالة ؛ لأن في الناس متجاهلين كثيراً، ألا ترى إلى قوله سبحانه، يحكي عن الجهال إذ قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، فأراد سبحانه أن يُثَّبَتَ الحجة لنفسه على الجهال الذين يقولون مثل هذه المقالة فيه.
[الإذن من الله](1/2)


واحتجوا أيضاً بقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، فصدق الله عز وجل، لولا أنه أذن بالإيمان، وخلى بينهم وبينه ما عرفوه، ولا دلهم عليه، ولا أمرهم به، ولا أرسل إليهم المرسلين حتى بينوا لهم فضله وشريف منْزِلته، فأي إذن أكبر أو فعل أخطر مما فعل الله بهم؟، ألا ترى إلى قوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
[معنى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}]
واحتجوا أيضاً بقوله عز وجل ذكره: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، فصدق الله العظيم، لقد علم منهم أنهم لا يؤمنون اختياراً منهم ومحبة للفسق، ولو أنهم كانوا عنده مطيعين (لا([1])) مستحقين للفسق ما سماهم به، وإنما حقت كلمته عليهم بعد فسقهم وصدهم عن أمره ونهيه، وبعد الكفر منهم، لا الابتداء منه لهم، ألا ترى إلى قوله: {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا}، ولم يقل سبحانه: على الذين آمنوا، ولا: على المسلمين، وإنما معنى حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أي وجب عليهم حكمه ووعيده، وقوله: {أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} اختياراً منهم للكفر ومحبة له، وأنه قد حكم عليهم بالفسق لما فسقوا وخالفوا عن أمره ونهيه.
وأما قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، يعني بكافة: جميعاً، فإذا كان أمره للجميع فكيف يدخل قوم في السلم قد أدخلهم فيه؟ وكيف يأمر قوماً بالدخول فيه، وقد منعهم؟ هذا فعل متلعب عباث لا ينفذ له أمر في شيء مما يأمر به، ولا مما يريده، فتعالى الله عن ذلك أحكم الحاكمين.
[معنى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً...}](1/3)


ثم احتجوا بقوله سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(23)}، وجهلوا ما قبل ذلك من قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، فصدق الله عز وجل لم يضله حتى اتخذ إلهه هواه وعبده من دون الله، وعلم ذلك منه ومن فعله، فأضله الله بعد ما فعل وبعد ما كان منه، ولعلمه أنه لا يؤمن ولا يدع ما هو عليه من الكفر، فهذا معنى علم الله به، لم يدخله العلم في شيء، ولم يحل بينه وبين شيء، وإنما هو أخبر بإضلاله له والإضلال من الله إنما هو في إهماله وترك تسديده، وتوفيقه للخير، ألا ترى كيف يقول سبحانه في موضع آخر: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وذلك لعلمه سبحانه أنه قد استحوذ عليهم إبليس وأحبوا ما هم فيه من الكفر والضلال حتى لم يتلفتوا إلى شيء مما يوعظون به ولا تعمل فيهم الموعظة ولا يتدبرون ما هم عليه من الكفر الذي قد دخل في قلوبهم فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم أو وعظتهم أم لم تعظهم لا يؤمنون، أي لا يصدقون بشيء مما تدعوهم إليه ولا يخافون مما تخوفهم منه، قد أعمت حلاوة الكفر أبصارهم وأصمت أسماعهم وختمت على قلوبهم حتى منعت حلاوة الموعظة أن تصل أو تدخل في قلوبهم أو يلتفتون إلى شيء مما يعظهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
[معنى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ...].(1/4)


واحتجوا أيضاً بقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وتأولوا في ذلك بأقبح التأويل، ولم يتدبروا الآية فيصح لهم فساد تأويلهم، وزعموا أن المصيبة هي الكفر وغيره من أعمال الإثم، وليس ذلك كذلك ؛ لأن آخر الآية يدل على غير ما تأولوا وقالوا، وإنما أراد بقوله سبحانه: ما أصاب الناس في الأرض من مصيبة، ولا أصابتكم في أنفسكم، إلا وقد علم الله ذلك من قبل أن يبرأ النفس، وهو خلقها برؤها، فعناء ما في الدنيا من الآفات التي تقع في الأموال والثمار وغيرها من المصيبات التي يكثر شرحها، ولم يرد بذلك سبحانه الإيمان والكفر والعصيان، ولو أراد سبحانه، ما تأوله الجاهلون من الجبر على الإيمان والكفر، ما قال: {وبشر الصابرين}، وكيف يكون كافراً وفاسقاً من كان محسناً صابراً ومُبَشَّرَاً بالخير؟ ألا ترى إلى تصديق ما قلنا في تمام الآية حين يقول: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم} [الحديد:23]، فصح عند كل فَهِمٍ أنه إنما أراد بهذا القول محن الدنيا وبلواها وفرحها وحزنها، وكثرة المال ونقصانه، وزكاة([2]) ثماره، ولو كان مراده عز وجل بهذا القول الكفر والإيمان لم يقل: لا تأسوا على الإيمان إن فاتكم ولا تسروا به إن نلتموه ولا تفرحوا بفوات الكفر لكم، فأي سرور يسر العبد إذا لم يسره الإيمان؟ وأي فرح أعظم منه على العبد وأحلى من فوات الكفر له وتخلصه منه؟ والحجة في هذا نفسه قول من قال بما ذكرناه، ولم يقل: الذين إذا أصابهم الإيمان والكفر فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون، فبهذا علمنا أن المعنى هو ما ذكرنا من محن الدنيا وآفاتها، ولو كان على ما تأوله الجاهلون ما سمي مصيبة، ولا أمرهم بالصبر عليه للعلة التي شرحت لك، كيف يجوز أن يأمرهم بالصبر على الكفر(1/5)

1 / 9
ع
En
A+
A-