فلما أن سمع أبو بكر ذلك نزل عن المنبر ودخل منزله، فمكث لا يخرج إلى الناس ثلاثة أيامٍ، فلما أن كان اليوم الرابع أتى عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أبي حذيفة، والأشعث بن قيس، وأبو موسى الأشعري، وقنفذ مولى عمر، مع كل رجلٍ منهم عشرة رجال، شاهرين أسيافهم، حتى أخرجوه من منزله، وعلا المنبر فخطب، وجعلوا يدُورون في المدينة وهم يقولون: والله لئن عاد أحدٌ إلى مثل ما تكلم به بالأمس لنعلونّه بأسيافنا، فأمسك القوم عند ذلك ولم يردوا جواباً.(1/491)


فأين الإجماع من الأمة؟ وهؤلاء كبار الصحابة وعلماء الأمة أنكروا ذلك. فأما إجماع من لا يعتد به من الجهال [ومن الرعية] فليس إجماعهم بحجةٍ؛ لأن الله تعالى ذكر أمم الأنبياء بالتكذيب قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ}[ق:12،13]، وحكى قول نوح عليه السَّلام: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:26،27]، وقد أخبرنا الله تعالى أنه ما آمن للرسل إلا الأقل من أممهم فقال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }[هود:40]، وقال: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً }[البقرة:249]، وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:13]. وقال -فيما حكاه عن داود عليه السَّلام: {وَإِنَّ كَثِي‍رًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص:24]، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}[العصر:1ـ3] ولا يستثنى من الشيء إلا الأقل. وأخبرنا: أن أكثر الناس لم يؤمنوا ولم يعقلوا فقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }[هود:17]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الأعراف:187]، وقال: {وَلَكِنَّ(1/492)


أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} فصحّ أن إجماع من أجمع من الأمة على إمامة أبي بكر لا يُؤخذ به، وإنما يُؤخذ بإجماع العلماء والصحابة، والإجماع وقع في علي عليه السَّلام؛ لأنهم مجمعون معنا أنه مستحقٌّ للمقام، وأنه وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ديونه وأموره الخاصة، ونحن غير مجمعين معهم في أصحابهم وأئمتهم، فنحن أولى بحجة الإجماع منهم.
وأما سكوت أمير المؤمنين عليه السَّلام عن حقه: فإنه اجتهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جمع المؤمنين وتألُّفهم، وخشي إن نازع في حقه أن يُفرّق ما جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لو نازع القوم وعارضهم لشق عصا الإسلام، وكان عهد الناس بالشرك قريباً، وكان المشركون والكفار، والمنافقون والفاسقون، يُريدون ذلك ليشتغل المسلمون بعضهم ببعضٍ، وكان في ذلك فساد الإسلام، فرأى تغطية المسلمين على ما هم عليه أولى، وهو أهون العُسرين. فهذا سببُ وقوفه وسكوته عن حقه، وقلة أيضاً نصيحة أعوانه وأنصاره؛ وليس ذلك بعجيبٍ، قد أُخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيته، وتُبع فاختبأ في الغار للتُّقية، فلم يُعب بذلك؛ فكذلك أميرُ المؤمنين عليه السَّلام، وله برسول الله أسوةٌ حسنةٌ، مع أنه عليه السَّلام لم يسكت عن حقه. رُوي عنه عليه السَّلام أنه قال لولده الحسن عليه السَّلام: (يا بني ما زال أبوك مدفوعاً عن حقه، مُستأثراً عليه، مُنذُ قُبضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون) فنسب من دفعه عن حقه ظالماً، وقد تهدّد الله(1/493)


الظالمين بالعذاب.
وقال أيضاً في خُطبةٍ له: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلّ القُطبِ من الرَّحَى، يَنحدرُ عني السيلُ ولا يرقأ إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوباً وطويتُ عنها كشحاً...) إلى آخر كلامه. فلم يسكت عليه السَّلام، وإنما وقف لمّا عَدِمَ الأنصار.
ومن ظُلم أبي بكر الظاهر أنه منع فاطمة + حقّها من ميراث أبيها في فدكٍ والعوالي وغير ذلك، ولم يرض بظلمه لها حتى زاد فنسب ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليُحرِّم على ابنته وسائر ورثته الميراثَ منه، وهو يعلم أنّ الصّدقة محرّمةٌ عليهم، والنذور والكفّارات. وإذا منعوا آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الميراث -وقد أيضاً منعوهم الأخماس- فهل هذا إلا أكبر الظّلم؟
والقول في تقديم عمر وعثمان على علي عليه السَّلام كالقول في تقديم أبي بكر.(1/494)


وأما قيام أمير المؤمنين عليه السَّلام على معاوية بن أبي سفيان فإنه لما قتل المسلمون عثمانَ، واضطروا إلى عليّ عليه السَّلام وأُلجؤوا إليه من خوف معاوية لعنه الله، ولحاجتهم إلى القائم، فامتنع من القيام بهم لِمَا علم منهم من قلّة الوفاءِ والصِّدق، ولم يثق بهم لما تقدم منهم من تقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه، فكره ذلك، فما زالوا يطلبونه القيام، ويَعدونه الصبر معه والوفاء له، فلما وجبت عليه الحُجّة بوجود الأنصار، قام وبايعه المسلمون، فما لبث الزبير بن العوام وطلحة ومن والاهما إلا قليلاً ثم نكثوا البيعة، وخرجوا بعائشة إلى البصرة لحرب عليٍّ عليه السَّلام. وموجب ذلك أنهم أرادوا الدنيا، وكان أمير المؤمنين عليه السَّلام يريد الآخرة، فاختلفت نيّاتهم وقد قال الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رسول بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، فجمعوا على أمير المؤمنين الأعداء، وحاربوه حرباً شديداً. وروي عنه عليه السَّلام أنه قال: (بُليتُ بأربعةٍ لم يبلَ بهم أحدٌ: بعائشة بنت أبي بكر أطوع الناس في الناس، وبطلحة بن عبيد الله أنطق الناس في الناس، وبالزبير بن العوام أشجع الناس بالناس، وبيعلى بن منبه التميمي الذي يعين عَليَّ بأصواع الذهب والفضة). ثم خرج أمير المؤمنين عليه السَّلام إلى الكوفة ودعا أصحاب عائشة إلى كتاب الله وسنة رسول الله فأبوا أن يُجيبوا، وسألهم الرّجوع إليه فلم يرجعوا، فلمّا أبوا إلا القتال والفساد (في الأرض) حاربهم ووضع فيهم السيف فقتلهم،(1/495)

99 / 115
ع
En
A+
A-