فصل في الكلام في اختلاف الأمة في إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام
فقالت الشيعة جميعاً: الإمام علي بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحجتهم ما قد ذكرنا من العقل والكتاب والسنة.
وقالت المعتزلة والمرجئة وأصحاب الحديث -وهم أهل الظاهر: الإمام أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
وجحدت الخوارج إمامة علي عليه السَّلام.
واستدل من قدّم على علي غيره بحججٍ لهم:
منها: أنهم قالوا: أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار، وقد ذكره الله في كتابه فقال تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40].
ومنها: أنهم قالوا: إنه المُولَّى في الصلاة.
ومنها: ما رووا عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن ولّيتم أبا بكرٍ وجدتموه قويًّا في دينه ضعيفاً في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قويًّا في دينه قويًّا في بدنه، وإن وليتم عثمان وجدتموه هادياً مهديا، وإن وليتم عليًّا -ولا أراكم تفعلون- أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)).
وبما رووا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم)). وأكبر حججهم -بزعمهم- إجماع الأمة عليهم، وسكوت علي عليه السَّلام. وبما رووا من قول أبي بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث )). والأكثر منهم والأعم يقولون: إن مقام أبي بكر كان بالشورى، وبنظرٍ من المسلمين.(1/481)
وقالت شرذمة منهم وهي الأقلُّ: بل كان ذلك بوصاةٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والرد عليهم -في قولهم واحتجاجهم بالغار- فإنه لم يُذكر في الغار بمدحٍ، لكنه ذُكِرَ بنهيٍ؛ لأن قول النبيء صلى الله عليه وآله وسلم له: {لا تحزن} دليلٌ على أنه كان قد ظهر منه الحزن والجبن. وأيضاً فإن السكينة التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل على أبي بكر قال الله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة:40]، ولم يقل فيه كما قال في المؤمنين: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى...}الآية[الفتح:26]. فصحّ أن صحبته لا توجب له ما ادّعوه. وأيضاً فإن كانت له بذلك فضيلةٌ، فصبر أمير المؤمنين ومرقدهُ على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضلُ.
وأما قولهم: (إنه المُولَّى في الصلاة). فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خرج متكئاً على كتف علي عليه السَّلام، والثاني اختلف فيه، فقيل: عبد الله بن العباس، حتّى نحّى أبا بكرٍ، وصلّى بالناس قاعداً، فلو لم يُنحِّهِ لكان ذلك فضلاً. وأيضاً فقد يجوز أن يُصلي الرجل بأفضل منه، وقد رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولّى ابن أمِّ مكتوم على الصلاة بالمدينة.(1/482)
وأما ما رووا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن ولّيتم أبا بكرٍ وجدتموه قويًّا في دينه ضعيفاً في بدنه، وإن وليتم عمر وجدتموه قويًّا في دينه قويًّا في بدنه، وإن وليتم عثمان وجدتموه هادياً مهديًّا، وإن وليتم عليًّا -وما أراكم تفعلون-، أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)) ففي هذا الخبر وجوه:
منها: أنه لم يصح لنا.
ومنها: أنه ليس بأمرٍ لهم، لكنه إخبارٌ منه يما يكون بعدهُ من فعالهم؛ ويدل على ذلك قوله في علي عليه السَّلام: ((وما أراكم تفعلون)).
ومنها: أن هذه الصفات فيهم تدل على أن الآخر أفضل ممن ذكر قبله، وذلك: أن القويَّ في دينه وفي بدنه أفضل من القويِّ في دينه الضعيف في بدنه لهذا الأمر، فكان على هذا يجب أن يُقدم عمر على أبي بكر، والهادي المهدي يكون أفضل من القويّ في دينه وبدنه، فعلى هذا يجب أن يُقدّم عثمان على عمر وأبي بكر وقوله: ((إن وليتم عليًّا -وما أراكم تفعلون- - أكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم)) وهذه الصفة هي أفضل من صفات المتقدمين، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...} إلى قوله: {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}[المائدة:65،66]، فوجب على هذا تقديم علي عليه السَّلام على جميعهم. وقد روي أنه لم يُذكر في الخبر عثمان، وأنه قال بعد ذكر عمر: ((وإن وليتم عليًّا وجدتموه هادياً مهديًّا يسلك بكم الطريق المستقيم)).(1/483)
وأما ما رووا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، فهذا الخبر إن صح فإن مخرجه عامٌّ ومعناه خاصٌّ، والمراد به: أنه أراد بهم أن يُقتَدَى بأصحابه المؤمنين الصالحين في شرائع الدين، ويُؤخذ منهم العلم، ويقبل منهم الخبر إذا كان موافقاً للكتاب. ولو كان هذا الخبر يؤخذ بظاهره لجاز أن يكون سلمان خليفةً وإماماً، لو طلب ذلك؛ وكذلك عمار وأبو ذرّ وسائر الصحابة، فسقط تعلّقهم بهذا.
وأما ما رووا من قول أبي بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث ))، فإنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأخبار المتواترة أنه قال: ((ما رُوي لكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فهو مني، وأنا قلته، وما لم يوافقه فليس مني ولم أقله)) وقد وجدنا في كتاب الله ما يخالف خبر أبي بكر وهو ما قصّ الله تعالى من وراثة أولاد الأنبياء" لآبائهم، وذكر وراثتهم لهم، فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ }[النمل:16]، وقال تعالى حاكياً عن زكريا: {وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:5،6]، فصحّ أن الخبر الذي رواه أبو بكر لا يصح من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما احتجاجهم بإجماع الأمة، وسكوت عليٍّ عليه السَّلام عن حقه فليس ذلك لهم بحُجّةٍ من وجوهٍ:(1/484)
منها: أن أكابر الصحابة وعلماء الأمة لم تُجمع على ذلك بل أنكروه واجتنبوه، فإنه رُوي عن الزبير لمّا امتنع من البيعة لأبي بكر حُمل عليه وانتهى الأمر إلى كسر سيفه. وروي أن عمار بن ياسر ضُربَ، وأن سلمان استُخِفّ بِهِ إذ لم يُبايعا لأبي بكر. ورُوي أن فاطمة+ هجموا بيتها، لما تأخّر عليّ عليه السَّلام عن البيعة، وأن سعد بن عبادة لما أظهر الكراهة للبيعة اضطر إلى مفارقة المدينة ثم رُمي بسهمٍ في أيام عمر ومات. وروي أنه لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولي أبو بكر الأمر واجتمع عليه الناس فرقى المنبر خطيباً، واجتمع الناس حول منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان ممن قعد عن بيعته اثنا عشر رجلاً: ستّةٌ من المهاجرين، وستة من الأنصار، فكان من المهاجرين: خالد بن سعيد، وأبو ذر، وعمار، والمقداد، وسلمان، وأبيّ بن كعب.(1/485)