وقال تعالى يذم من لا ينهى عن المنكر: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ، كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة:78،79]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر أو لَيُسلطنّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم))، وروي أنه قال: ((مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ولو حبواً))، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا يحل لِعَيْنٍ ترى الله يُعصى فتطرف حتى تُغيّر أو تنصرف)) .
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليُغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) فثبت ما ذكرنا من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من طريق العقل والكتاب والسنة، وهو إجماع الأمة. وكذلك وجب تقديم الأفضل لقول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى}[يونس:35]، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[فاطر:28].(1/471)


فصل في الكلام في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأمة مجمعةٌ على أنه ما جمع الخلال المحمودة بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم غيره.
فأول الخلال المحمودة: القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أخُو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه وزوج ابنته، وأبو سبطيه.
ومنها: السبق بالإيمان، والأمة مجمعةٌ (على) أنه أول رجلٍ آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مجمعة على أنه ما عبد صنماً، ولا أشرك بالله. وغيرُهُ -من أجلاّء الصحابة- آمن بعد الشرك.
ومنها: أنه أكثر الناس عناءً وجهاداً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن عنائه وبذله لنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه فداه بنفسه ليلة رقد على فراشه.
ومنها: شجاعته عليه السَّلام التي خُصّ بها، فإنه نازل الأقران، وقتل الشّجعان، وأباد صناديد العرب، وفرّج عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الكرب، فَقَوِيَ الإسلام بجهاده، وضعُف الكفر بصبره واجتهاده.
ومنها: علمه الغزير وفقهه الكثير حتى قال عمر فيه مع مكانه في الفقه: (لولا عليٌّ لهلك عمر). وقال: (لا أبقاني الله لمعظلةٍ لا أرى فيها أبا الحسن).
ومنها: كرمه المعروف وسماحه الموصوف، فإنه كان يؤثر غيره في القُوت على نفسه ولا يدّخر طعاماً لغده من أمسه.(1/472)


ومنها: زهده في الدنيا مع قدرته على بلوغ كثيرٍ من الأشياء، فرضيَ من قُوته بأدْوَنِهِ، ومن لباسه بأخشنه، وفيه ما يقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:55،56].
وبإجماع الأمة أنه لم يُزَكِّ أحدٌ راكعاً غير عليّ عليه السَّلام، فنزلت هذه الآية فيه، فثبت أنه الوليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: فما أنكرتم أن تكون هذه الآية عامة لجميع المؤمنين؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن الله تعالى ذكر الوليَّ والمُوَلَّى عليه، فخاطب المُوَلّى عليه بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ} فصحّ أن الوليّ غيرُ المُوَلّى عليه، فثبت أن الآية خاصّة لعلي عليه السَّلام إذ لم يدّعيها غيرُه، ولا تصدّق راكعاً سواه بإجماع الأمة، فثبت أنه أولى بالإمامة؛ لأن الله تعالى أحَلَّهُ في ولاية المؤمنين محلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/473)


ومما يدلّ على أنه أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من قصة المباهلة؛ فإنه لمّا وردت نصارى نجران أنزل الله تعالى آية المباهلة، قال عزّ من قائلٍ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:61]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، فأحجمت نصارى نجران ولم يباهلوا، فصحّ أنه من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ورُوي أيضاً في الأخبار المتظاهرة: أنه لما نزلت البراءة من المشركين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر آياتٍ من أول السورة إلى قريش أبا بكر فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه لا يبلّغها إلا أنت أو من هو منك) يعني أمير المؤمنين عليه السَّلام، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي بكر يُرَدُّ ويبلّغها أمير المؤمنين إلى قريش، وقرأها عليهم بمكّة فصحّ أنه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/474)


ورُوي عن أنس بن مالك قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك استخلف علي بن أبي طالب عليه السَّلام على المدينة وما هنالك، فقال المنافقون عند ذلك: إن محمداً قد شنئ ابن عمه وملّه، فبلغ ذلك عليا عليه السَّلام، فشدّ رحله، وخرج من ساعته، فهبط جبريل صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمه بقول المنافقين، وخروج علي عليه السَّلام للّحاق، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منادياً فنادى بالتّعريس في مكانكم، فاجتمع الناس إليه يسألونه عن التعريس في غير وقت التعريس، فأخبرهم بما أتى به جبريل صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ، وأخبرهم أن الله تعالى أمره أن يستخلفه في المدينة قال: فركب بعض أصحاب النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ليتلقّوه، فما زالوا من مواضعهم إلا قليلاً، وطلع عليهم عليٌّ عليه السَّلام مُقبلاً فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحوله الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تلقاه ماشياً والناس حوله: ((ما أقبل بك يا علي بن أبي طالب ))، وهو يعانقه، فقصّ عليه القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، ما خلفتك إلا بأمر الله سبحانه ، وما كان يصلُح هناك غيري وغيرك، أما ترضى أن تكون خليفتي كما استخلف موسى هارون، أما والله إنك مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيء بعدي)) فلما أقبل رسول الله قسم للناس فدفع إلى علي سهمين، فأنكر ذلك قوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيها الناس، هل أحدٌ أصدق مني ؟ قالوا: لا(1/475)

95 / 115
ع
En
A+
A-