واعلم أنا لا نقطع على من كان عصى الله معصيةً عمداً ثم تاب منها وأناب وأخلص واشتهر إخلاصه وتوبته عند الخاص والعام، وظهر صدقه ووفاؤه وطهارته ونقاؤه أنه لا يجوز أن يرسله الله إلى قوم، بل نقول: إنه قد يمكن ويجوز ذلك؛ لأنه قد خرج من جملة الظالمين، وأهل الظِّنّةِ والمُتّهمين. ألا ترى أن الشاهد الفاسق إذا تاب من فسقه عند أداء الشهادة أنه لا يُقبل منه، ويكون من أهل الظنة، وإذا تاب قبل ذلك بزمانٍ طويلٍ أنه تُقبل شهادته، ولا يُظن فيه كذبٌ ولا شهادة زورٍ.
والدليل على ما قلنا: ما كان من قصة أولاد يعقوب" من عقوق أبيهم وظلم أخيهم، ثم تابوا من ذلك وسألوا أباهم أن يستغفر لهم فغفر الله لهم، ثم كانوا أنبياء بعد ذلك، وقد ذكرهم الله في جملة الأنبياء قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136]، وفي تفسير ابن عباس: أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنهم أنبياء، وهو إجماع الأمة، ولم يخالف أيضاً اليهود في أن الأسباط هم أولاد يعقوب، وأنّهم أنبياء.(1/466)


والدليل على صحة ما ذكرنا قول الله تعالى لموسى عليه السَّلام: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النمل:10،11] فصحّ ما قلنا، وقول الله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124]، فليس التائب المخلص بظالمٍ.
ومما يؤيد ما قلنا في خطايا الأنبياء ": ما ذكره المرتضى عليه السَّلام في كتاب الشرح والبيان قال: إن الأنبياء " غيرُ معصومين، وأنهم يغفلون ويسهون، وأنّ بُنْيَتَهُمْ مركّبة على بنية الآدميين.
وقال في قول الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}[طه:121،122]: فلا تكون التوبةُ إلا من بعد الخطيئة.
وقال فيه: من قال إن آدم لم يعص، ولم يظلم موسى نفسه، وكذلك يونس، فقد أكذب كتاب الله تعالى.(1/467)


باب حقيقة معرفة الإمام
اعلم أنه لمّا كانت النبوءة لا تحصل لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله قد ختم به الرسل كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رسول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }[الأحزاب:40]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا نبيء بعدي )). وكان الناس محتاجين إلى من يقوم [في] مقام النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لينفِّذ الأحكام، ويحل الحلال، ويحرم الحرام، ويكفل الضعفاء والأيتام، وينصف المظلومين من الظالم، ويدعو إلى عز الإسلام وبناء المكارم، ويدفع كل خائنٍ وغاشمٍ، ويدعو إلى الجهاد في سبيل رب العالمين، ويعزّ المؤمنين، ويذل الفاسقين؛ حكم العقل بوجوب قيام إمامٍ من المؤمنين لصلاح الإسلام والمسلمين، وحكم العقل بأنه إن لم يقم إمامٌ أن الإسلام يَضعف، وأن الكفر يتقوّى، وأن الفساد يلحق جميع الناس، فوجب قيام الإمام بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك القول إذا مات الإمامُ، أو قُتل أنه يجب قيامُ إمامٍ بعده، إلى آخر الدّهر.
وحكم العقل أيضاً بأن الإمام بعد النبيء صلى الله عليه وآله وسلم يكون مختاراً ولا يكون في الأمة من هو أفضل منه، وأن يكون جامعاً للخصال المحمودة ولا يكون في الأمة من هو أجمع منه للمحامد.
فمن الخلال المحمودة: أن يكون أقرب الناس إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون أسبقهم إلى طاعته، وأن يكون أكثرهم بذلاً وعناءً معه، وأن يكون أعلم الناس بالكتاب والسُّنّة، وأن يكون أسخاهم بماله ونفسه.(1/468)


والأمة مجمعةٌ على أنّ هذه الخلال كلها في علي أمير المؤمنين عليه السَّلام وقائد الغر المحجّلين دون غيره من الأمة.
ومما يؤيد ما قلنا من الكتاب ـ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الإمام ووجوب دعوته إلى الله ـ قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[فصلت:33]، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وقال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ...}الآية[النساء:135]، وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...}[آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات:9]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ..إلى قوله: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أو مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الأعراف:159-164]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ(1/469)


هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:23،24]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:140ـ142]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[الحج:78]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]، ومعنى قوله: {وَسَطًا} أي خياراً، قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنامُ بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم(1/470)

94 / 115
ع
En
A+
A-