وقال تعالى في يونس عليه السَّلام وعجلته: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء:87]. وقد قيل: إن سبب إبَاقِهِ أنه أرسله الله إلى قومه فكذّبوه، فوعدهم بنقمةٍ من الله تُصيبهم بعد ثلاثة أيامٍ، وقال لهم: وعلامة ذلك أن وجوههم تُصبح غُبراً أوّل يومٍ من هذه الأيام، واليوم الثاني تُصبح حمراً، واليوم الثالث تُصبح وجوههم سوداً ويأتيهم العذاب، ثم إنه تنحى عنهم لئلاّ يناله ما نالهم، فلما أصبحت وجوههم كما ذكر لهم [في] اليوم الأول واليوم الثاني، صدّقوا وخافوا العذاب، فآمنوا به وجأروا إلى الله بالدّعاء والتوبة، فرفع الله عنهم العذاب، فلما كان بعد ثلاثة أيّامٍ أتى يونس عليه السَّلام لينظر كيف كانت مصيبتهم من الله تعالى، فأتى وهم سالمون، فاغتمّ لذلك، وأبق خوفاً من أن يكذّبوه واستعجل ولم ينتظر الوحي من ربه، فكان من أمره ما حكاه الله [تعالى]، وقد قال الله لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ}[القلم:48،49]، فبيّن أن فعله كان مكروهاً ومذموماً؛ ولأنه نهى نبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون مثله، وليس ينهاه إلا عن مذمومٍ، فكان ذنبه الاستعجال، وترك الإنتظار لوحي ربه. وكذلك كانت معصية آدم عليه السَّلام استعجاله في أكل الشجرة قبل أن ينزل إليه وحي ربه. وقال تعالى في داود وتأويله الذي ظن أنه جائزٌ له: {وَهَلْ(1/461)
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24]، فكان فِعاله صلى الله عليه وسلم في ذلك مذموماً، فتاب منه وندم.(1/462)
وقد روي عن نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء قبلي : جُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً، وذلك قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا }[النساء:43]، وأحلّ لِيَ المغنمُ ولم يُحل للأنبياء قبلي وذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}[الأنفال:41]، ونُصرتُ بالرّعب على مسيرة شهرٍ، وفُضِّلتُ على الأنبياء بثلاثٍ: تأتي أمتي يوم القيامة غرًّا مُحجلين معروفين من بين الأمم، ويأتي المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً ينادون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثالثة ليس من نبيء إلا وهو يحاسب يوم القيامة بذنبٍ غيري؛ لقول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2])).(1/463)
فدل هذا الخبر على صحة ما قلنا في خطايا الأنبياء. ودل أيضاً على أن محمداً رسول الله أفضل المرسلين، ويؤيد ذلك ما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشر صلواتٍ ومحا عنه عشر سيئات واستبق ملكاه الموكلان به أيّهما يُبلِّغُ روحي منه السلام)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم تُضاعف فيه الأعمال، واسألوا الله لِيَ الدرجة الوسيلة من الجنة، قيل: يا رسول الله وما الدرجة الوسيلةُ من الجنة؟ قال: هي أعلا درجةٍ من الجنة لا ينالها إلا نبيء أرجو أن أكون أنا هو))، فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء.
ومما يدل على أن النبيء يسهو وينسى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى بجماعةٍ الظّهر خمس ركعاتٍ، فقال له بعض القوم: يا رسول الله هل زِيدَ في الصلاة شيءٌ؟ قال: ((وما ذاك؟)) قال: صليتَ بنا خمس ركعاتٍ، فاستقبل القبلة وهو جالسٌ، وسجد سجدتين، ليس فيهما قراءة ولا ركوعٌ ثم سلّم.(1/464)
واعلم أنه لا يُقال: إن النبيء معصومٌ عن جميع المذمومات والمعاصي. لأنه لو كان كذلك لم يكن له ثوابٌ في لَزْمِهِ لنفسه عن المحرّمات، ولَمَا كان محموداً في ترك اتباع الشهوات، ولَمَا كان يوسف عليه السَّلام في لزمه لنفسه عن امرأة العزيز محموداً ومُثاباً، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف:24]، فصحّ أنه لزم نفسه (عنها) لا عن عصمةٍ. ولا نقول إن الله عصمه منها بل نقول: إن الأنبياء" مُخيَّرون مُمَكّنون كغيرهم من الآدميين بل إنهم أقوى على نفوسهم وعلى لزمها من المحرمات لِمَا شاهدوا من الدلائل والمعجزات والرسالة من الله لهم والآيات.
وقد يمكن أن يصرف الله عنهم بالتوفيق والتسديد كثيراً من المحظورات كما قال الله -حاكياً عن يوسف عليه السَّلام: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:33،34].(1/465)