ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الجمعة:2-4]، فختم الله به الرسل، ونسخ بملّته الملل، فالحمد لله على فضله.(1/456)


فصل في الكلام في اختلاف الناس في النبيء صلى الله عليه وآله وسلم
فإنه لا خلاف بين الأمة فيما ذكرنا من نبوءة نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه خاتم النبيئين، وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين، وبمعجزاته، وأن كل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم حق، وجميع ما نطق به صلى الله عليه وآله وسلم صدق، وإنما وقع الخلاف بيننا وبين الكفار؛ فإن كفار العرب وكفار العجم جحدوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من ربه.
وقالت البراهمة بالتكليف العقلي، ونفوا التكليف الشرعي، وجحدوا الرسل، وعلتهم أن الصانع عالمٌ حكيمٌ، والعالم الحكيم لا يُرسل الرسل وهو يعلم أنه يُعصى.
ومنهم من يُقرّ بآدم و[منهم من يقر] بولده شيث عليهما السلام. ومنهم من يقرّ بآدم عليه السَّلام.
والحجّة على الذين نفوا جميع الأنبياء قريبةٌ؛ وذلك أنهم قد أقروا بالتكليف العقلي، فكما كان في التكليف العقلي صلاحٌ للعقلاء كذلك التكليف الشرعي، ولما لم يكن التكليف الشرعي يحصل إلا بالإرسال من الله تعالى وجب إرسال الرسل.
والحجة على الذين أقروا بآدم عليه السَّلام أقربُ، وذلك أنه إذا كان في نبوءة آدم وشيث صلاح فكذلك سائر الرسل.(1/457)


وأما قولهم: (إن العالِمَ الحكيمَ لا يُرسل الرسل وهو يعلم أنه يُعصى). فالحجة [عليهم] أنه لما جاز أن يكلّف الله عباده التكليف العقلي، وأراد منهم العمل بما كلّفهم -وهو يعلم أن بعضهم يعمل بما كلّفه وينتفع به، وبعضهم لا يعمل بما أراد منه ولا ينتفع به- فكذلك التكليف الشرعي يجوز أن يُرسل الله الرسل إلى عباده وهو يعلم أنّ منهم من يطيع وينتفع ومنهم من لا ينتفع ولا يطيع، ولولا إرسال الله الرسل لما تبيّن المطيع من العاصي، ولو عذّب الله العاصي ولم يُرسل إليه رسولاً لقال: لو جاءني رسول لأطعت ولعملتُ ما أمرت به. وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[طه:134].
وأيضاً فإن الله تعالى ما خلق المتعبَّدين إلا للعبادة، وقد علم أن أكثرهم لا يعبدونه، فلم يمنعه علمه بمعصية من يعصيه عن خلق المتعبَّدين، وتعبدهم لما علم أنه يلحق المطيعين من الصلاح والانتفاع؛ ولأن تبلغ الحجّة على العاصين فكذلك الإرسال من الله تعالى.
وأنكرت اليهود نسخ الشرائع مع جحدهم لمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوه ووجدوه مكتوباً عندهم في التوراة كما قال تعالى: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ}[الأعراف:157]. ورووا عن موسى عليه السَّلام أنه قال: (إن شريعتي لا تنسخ أبداً).(1/458)


وأقروا بأن قبلة إبراهيم عليه السَّلام كانت الكعبة. وإذا جاز نسخ الكعبة لموسى عليه السَّلام إلى بيت المقدس، جاز نسخ بيت المقدس لمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة، فبطل قولهم: إن الشريعة لا تنسخ.
وأما ما رووا من قول موسى عليه السَّلام: (إن شريعتي لا تنسخ أبداً). فإن شيوخ المعتزلة ذكروا أن العلماء من اليهود الذين يُرجع إلى قولهم لم يذكروا أكثر من أن موسى عليه السَّلام قال لهم: (إن تمسكتم بشريعتي حييتم أبداً).(1/459)


فصل في الكلام في خطايا الأنبياء عليهم السلام
اعلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم بشرٌ من الناس، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق -كما قال الله تعالى- وأنهم مُركبون على الشهوات والكراهة، والغفلة والذِّكر والنسيان إلا في تبليغ ما أمروا به فإنهم معصومون عن النسيان والغفلة والسهو والكذب؛ لأن الله قد اختارهم لتبليغ رسالته وأداء أمانته، ولا يجوز أن يُرسل من ينسى شيئاً من تبليغ الرسالة أو يسهو عنها أو يكذب، فهذه الجملة لا تجوز على الأنبياء بل هم معصومون عنها. وكذلك تعمّد معصية الله، قال الله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124]، فأما في سائر أفعالهم غير تبليغ الرسالة، فإنه يجوز عليهم النسيان والغفلة، والخطأ في التأويل، والعجلة، وقد ذكر الله عنهم ذلك، وذكر توبتهم منه وندمهم وإقلاعهم واستغفارهم، فقال في النسيان والخطأ في آدم عليه السَّلام: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }[طه:115].
وقال -حاكياً قول موسى للخضر عليهما السلام: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ }[الكهف:73]. وقال الله تعالى لنبيئنا صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[الأنعام:68].(1/460)

92 / 115
ع
En
A+
A-