ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: ما روي أن يهودياً قال لعلي أمير المؤمنين عليه السَّلام: إن موسى بن عمران عليه السَّلام قد أُعطي العصا فكان ثعباناً. قال: فقال له علي عليه السَّلام: قد كان ذلك، ومحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم قد أُعطيَ ما هو أفضل من هذا: إن رجلاً كان يطلب أبا جهل بن هشام لعنه الله بدينٍ كان له عنده فلم يقدر عليه، واشتغل عنه وجلس يشرب، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب؟ فقال: (أطلب) عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) ولِيَ عليه دينٌ. فقالوا: ندلُّك على من يستخرج لك حقك؟ قال: نعم، فدلوه على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو جهل يقول: ليت لمحمدٍ إليّ حاجة فأسخر به وأردّه، فأتى الرجل إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد بلغني أن بينك وبين أبي الحكم حسباً، وأنا أستشفع بك إليه، فأتاه فقال له: ((قم فأدِّ الرجل حقه )) فقام مسرعاً حتى أدّى إليه حقه، فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه: كل ذلك فرقاً من محمدٍ؟ قال: ويحكم أعذروني إنه لما أقبل إليَّ رأيت عن يمينه رجالاً بأيديهم حرابٌ تلألأ، وعن يساره ثعبانين تصطكُّ أسنانهما، وتلمع النيران من أبصارهما، فلو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني، ويبتلعني الثعبانان، فهذا أكبر مما أعطي موسى -صلى الله عليه- ثعبانٌ بثعبان موسى، وزاد الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثغباناً وثمانية أملاك.(1/451)


ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما رُوي أنه لما كان في غزوة تبوك ضلّت ناقته، فنادى الناس: [أن] أقيموا فإن ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ضلّت، فاجتمع ناسٌ من المنافقين فقالوا: يحدثنا عن القيامة وما يكون في غدٍ وما يعلم مكان ناقته!! فأتاه جبريل -صلى الله عليه- فقال: أترى أولئك الجلوس إنهم يقولون: يحدثنا عن القيامة وما يكون في غدٍ ولا يعلم مكان ناقته. فإن ناقتك في شعب كذا وكذا، متعلِّق زمامها بشجرةٍ. فنادى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن أناساً يزعمون أنّي أحدثهم عن القيامة وما يكون في غدٍ ولا أعلم مكان ناقتي، وإن ناقتي في شعب كذا وكذا متعلِّقٌ زمامها بشجرةٍ تجتر)) فبادر المسلمون إليها حتى أتوها.
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما روي أنه كان يخطب على الجِذْعِ من قبل أن يُنصب المنبر، فلما نصب وتحوّل النبيء صلى الله عليه وآله وسلم حنّ الجذع كما يحن الفصيل فلم يسكن حتى ضمّه إليه النبيء صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: إذعان البعير الصّائل، وإصغاؤه رأسه إليه، وسجوده بين يديه، فقيل له: سجد لك يا رسول الله حين رآك، فقال: ((لا، لا تبلغوا بي ما لم أبْلغ فلعمري ما سجد لي ولكن الله سخّره لي)).
ومن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من الاستسقاء.(1/452)


ومعجزاته صلى الله عليه وآله وسلم كثيرةٌ، وأكبرها القرآن، فإنه من أكبر معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم. والدليل على أنه معجزٌ أن الله تحدّى به من جحده بأن يأتي بسورةٍ من مثله فما قدروا، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}[البقرة:23]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }[هود:13]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِي‍رًا}[الإسراء:88]. فتحدّى العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم، وكانوا يتباهون بالبلاغة، ويتفاخرون بالفصاحة، ويرون ذلك من أشرف المناقب وأفخر المآثر، فكفّوا عن المعارضة فيه، وأمسكوا عن المحاورة، مع أنهم كانوا من أحرص الناس في توهين أمر النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إطفاء نوره، قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[الصف:8]. فكان من كفار العرب والعجم أنهم أعرضوا عن هذا التحدّي، وعجزوا أن يأتوا بسورةٍ مثله وعادوا إلى الحرب. وفي الشاهد أنه إذا تُحُدِّيَ إنسانٌ بفعل شيءٍ ولم يفعله، وعاد إلى غيره أنه قد أعجزه.(1/453)


وأيضاً ففي القرآن من الإعلام بالغيب ما قد تبيّن منه شيءٌ مثل قوله: {إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ }[الأنفال:7] فكان ذلك. ومثل قوله: {ال‍م ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:1-3]، فكان ذلك. ومثل قوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[الفتح:27]، فكان ذلك، وأمثال ذلك كثير.
ومن الدليل على أن القرآن من أكبر معجزات النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].
وفي القرآن أيضاً خلّةٌ أخرى وهو أنه سهلٌ معجزٌ، بليغٌ موجزٌ، ولا يوجد في كلام المخلوقين، مثل قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}[ص:86ـ88]، ففي هذه الكلمات ـ من الإبلاغ والإيجاز والمعاني العجيبة والدلائل الغريبة ـ ما يدلّ على أنه ليس يقدر على مثله أحدٌ من المخلوقين، فالحمد لله رب العالمين.(1/454)


فصل في الكلام في معنى الرسالة
اعلم أن الله لما خلق عباده، أعد لهم الجنة والنار والثواب والعقاب، فأعدّ لمن أطاعه الجنة، وأعدّ لمن عصاه النار. ثم أرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى الجنة ويُحذرهم من النار، فمن اتّبع الرسول دخل الجنة، ومن تخلّف عنه دخل النار. وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: ((إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السَّلام عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، فيقول أحدهما لصاحبه: إضرب له مثلاً، فقال: إسمع -سمعت أذناك- واعقل -عقل قلبك- إنما مثلك ومثل أمّتك كمثل ملك اتّخذ داراً، ثم بنى فيها بيتاً، ثم جعل فيه مائدةً، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله عزّ وجلّ هو الملك، والدّار الإسلام، والبيت الجنّة)) فكان كذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، وأنذر وحذّر، ورغّب وعلّم، وبصّر وبيّن، وفسّر، فهدى الله به إلى الإيمان، وأظهر دينه على الأديان، قال عزّ من قائلٍ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:9]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،(1/455)

91 / 115
ع
En
A+
A-