ومنها: أن أعداء الله لا يستحقون أن يُوحي الله إليهم لكفرهم ومعصيتهم. فلما كان ذلك لا يصلحُ، حَكَمَ العقلُ بأن الله لا يُوحي إلا إلى من ارتضى من عباده، وأنه يُرسل الرسول إلى أمّته ويقرنُ طاعته بطاعته، فإذا علم الله من الرسول الصّدق والإخلاص، والقُوّة على إبلاغ الرّسالة، والصّبر والعزم؛ أوحى اللهُ إليه، وأرسله إلى خلقه.
ولو أرسل من لا يُعرف بالصدق والصبر والطهارة لأدّى إلى وجوه:
منها أن يكون عند الناس من أهل التهمة والظّنة، لما يعرف منه من خلاف الصدق، ولم يكن أحدٌ ليصدقه لما قد عرف منه.
ومنها أن الله تعالى لم يكن ليُرسل لصلاح الناس من لم يُصلح نفسه.
ومنها أنه لم يكن ليبلِّغ ما أمر به إذا لم يكن صادقاً نقياًّ مخلصاً. فصح أن الله لا يُرسل إلا الصادق الصابر المخلص البر التقي النقي طيِّب الباطن والظاهر.
ولما كان الرسولُ لا يُصدَّق إلا ببرهانٍ بيّن، وحجّة واضحةٍ أظهر الله على يدي الرسول من الدلائل والآيات والبراهين والمعجزات ما يعجز عنه غيره من الناس ليصحّ ما هو عليه من البناء والأساس.
وقد قصّ الله قصص الأنبياء"، وذكر معجزاتهم وما كان من اجتهادهم وإظهار براهينهم ودلالاتهم، قال عزّ من قائلٍ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}[غافر:78].(1/446)
فصل في الكلام في نبيئنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فأول ما نذكر من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان عارفاً لربّه مرضياً برًّا تقيًّا طاهراً نقيًّا، وكان عالماً بالتكليف العقلي، ضالاًّ عن التكليف الشرعي، وكان يأخذ بعض ما يفعل من البرّ والتُّقى من عقله، وأخذ بعضه من جدِّه عبد المطلب، فإنه رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يبعث عبد المطلب يوم القيامة أمةً وحده ، قال: وكان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام و(كان) يقول: أنا على دين إبراهيم)).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عبد المطلب سَنّ خمساً من السُّنن أجراها عزَ وجلّ في الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ }[النساء:22]. وسنّ الدية في القتيل مائةً من الإبل فجرت في الإسلام. وكان يطوف بالبيت سبعة أشواطٍ ثم يقفُ على باب الكعبة فيحمد الله عزّ وجلّ ويُثني عليه، وكانت قريش تطوف [بالبيت] ما شاءت قلّ أو كثر، فسنّ عبد المطلب سبعةً سبعةً. ووجد كنزاً فأخرج خُمسه فتصدّق به، فجرى ذلك في الإسلام. ولما حفر زمزم سمّاها سقاية الحاجِّ، فأنزل الله تعالى قرآناً يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...}الآية[التوبة:19])). وروي عن سفيان بن عيينة قال: قيل لعبد المطلب: لِمَ سميتَ ابن ابنك مُحمداً وليس هو من أسماء آبائك؟ قال: أردت أن يحمده أهل السماء وأهل الأرض، فأطرق سفيان ساعةً ثم رفع رأسه فقال:
فشقّ لَه من اسمه لِيُجلّهُ(1/447)
فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمد
فهدى الله عبد المطلب إلى اسم النبيء صلى الله عليه وآله وسلم، وصدق رجاءه فيه وأنبته نباتاً حسناً، وجعله من أشرف منصبٍ في العرب، وأكرم بيتٍ وأعلاهم شأناً، وأفصحهم لساناً، وأقواهم سلطاناً، وأعزّهم مكاناً، وأمضاهم حساماً. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)). فلما اختاره الله واصطفاه، أرسله إلى الأبيض والأسود والأحمر.
وكان أول ما ظهر له من المعجزات نزول جبريل عليه السَّلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان جبريل رسولاً من الله إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فاطر:1].
والذي دلّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على أن جبريل -صلى الله عليه- رسول من الله (إليه) ما أراه من المعجزة الخاصّة لنفسه؛ لأنه لو لم يُرِهِ معجزةً لنفسه لم يتحقّق صدقه، كما أنه لا يتحقق صِدْق النبيء صلى الله عليه وآله وسلم إلا بمعجزة.(1/448)
فأول ما نزل جبريل إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم ما رُوي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي" قال: نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل وعليه جُبّة من سُندس بأعلى الوادي وهو يرعى غنماً لأبي طالب، فأخرج [له] درنوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه، ثم أخبره أنه رسول الله (إليه) يأمره بما أراد الله أن يأمره به، فلما أراد جبريل ـ صلى الله عليه ـ أن يقوم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطرف ثوبه ثم قال له: ما اسمك؟ فقال: جبريل، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلحق بالغنم فما مرّ بشجرة ولا مدرةٍ إلا وهي تسلّم عليه تقول: السلام عليك يا رسول الله.
ومن معجزات جبريل -صلى الله عليه- وسلام الخاصة ليُصدِّقه محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: ما روي أن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم رأى جبريل صافاًّ في الهواء قد سدّ الأفق. ورُوي أن جبريل جاءه صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجه إلى البقيع وانتهى به إلى مقبرةٍ فإذا جثوة في التراب، فضربها برجله وقال: قم بإذن الله، فانتفض التراب فإذا شخص قد صار حيًّا وهو يقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت عليه، وانتهى به إلى جثوة أخرى فضربها فقام صاحبها وهو يقول: الحمد لله، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت عليه، فقال: يا محمد فعلى هذا تبعثون.
وأما معجزات محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكثيرةٌ منها: ما روي بالأخبار المتواترة وإجماع الأمة.(1/449)
فمن معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم: مجيء الشجرة إليه، ورجوعها إلى موضعها، وإنباء الناس بما في صدورهم، وإعلامهم بما في ضمائرهم، وذلك من إنباء الله بذلك، وإعلامه إياه به، ومثل ما كان منه في شاة أم معبد، و[مثل] ما كان منه من الفعل في التمرات من غداء جابر بن عبد الله، وذلك أنه أخذ كفًّا من تمرٍ فوضعه في وسط ثوبٍ كبيرٍ ثم حرّكه ودعا فيه، فزاد وربا حتى امتلأ الثوب تمراً، ومثل ما كان منه في عشاء جابر بن عبد الله وهو صاع شعيرٍ وعناق صغيرةٍ أكل منها ألف رجل، وما كان منه في الوشل الذي ورده هو والمسلمون في غزوة تبوك فوضع يده تحت الوشل فوشل فيها مِلأها من الماء ثم ضربه ودعا فيه فانفجر بمثل عنق البعير.(1/450)