باب حقيقة معرفة النبيء صلى الله عليه وآله وسلم
اعلم أنه لما ثبت أن الله ما خلق الخلق إلا لمصلحة، وما خلق المتعبَّدين إلا ليعبدوه، وأنه قد أعطاهم من الاستطاعة والعقل ما يبلغون به المراد من التكليف العقلي.
والتكليف العقلي معرفة العبد لخالقه ونفي صفات النقص عنه في ذاته وفي أفعاله، ومعرفة النعمة والبلاء والجزاء، واستحسان الحسن والعمل به، واستقباح القبيح والتجنب له. وكان العقل يحكم بحصول الحاجة الداعية إلى التكليف الشّرعي؛ لأن العقل لا يُؤدي إلى معرفة كيفية العبادة كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وأشباه ذلك.
وكان التكليف الشرعي لا يحصل إلا برسول من عند الله تعالى، وكان إرسال الرسل من تمام الحجة وكمال النعمة.(1/441)


ولما كان العقل الذي هو أكبر حُجج الله على عبده يجده العبد في نفسه لنفسه ولم يكن العقل غير استحسانه للحسن، واستقباحه للقبيح، ونظره وتمييزه لنفسه بنفسه وجب أن يكون الرسول من الله تعالى إلى الناس من أنفسهم؛ ولأنه لو كان من غيرهم لثقُل ذلك عليهم، ولما أنسوا إليه بجميع حوائجهم، فحكم العقل أن الكتاب والرسول من الله من تمام الحجة وكمال النعمة، وقد قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:213]، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء:15]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[آل عمران:164].(1/442)


قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يريد: من بعضهم؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ...}الآية[البقرة:84،85]، فصحّ أنه أراد بقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من بعضهم. ومثل هذا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[الأعراف:189]، يريد أنه خلق الناس بعضهم من بعض وزوّج بعضهم ببعضٍ. ولا يصلح رسول إلى شيء إلا من جنسه قال الله تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً}[الإسراء:95]، فثبت أن الرسول من الله إلى الناس لا يكون إلا منهم.
ول‍ما صح أن الله تعالى مُتَعالٍ عن مشابهة خلقه، ولم يكن لِيُشَافِهَ أحداً ولا يُكلمه كما يُكلم ذو اللسان واللهوات، ولم يكن العلم يَصِلُ منه إلى العبد إلا بالوحي.
والوحيُ ينقسم على وجوه:
فمنها الإلهام؛ كما ألهم الله الملك الأعلى -صلى الله عليه- القرآن وغيره من الكتب.(1/443)


ومن الإلهام ما ألهم الله [به] الحيوان من استجلاب المنافع والنفار عن المضار كإلهام النحل، وغيره مما لا يعقل ومما يعقل، فهذا وحيٌ؛ قال الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}[النحل:68].
ومن الوحي ما أراه الله تعالى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قال الله تعالى -حاكياً عن إبراهيم- صلى الله عليه- من قوله لابنه إسماعيل -صلى الله عليه: {يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}[الصافات:102]، وقال الله تعالى لنبيئه صلى الله عليه وآله وسلم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِي‍رًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}[الأنفال:43].
ومن الوحي: الكلام الذي يُحدثه الله في بعض ما خلق، مما لا ينطق، كالكلام الذي سمعه موسى صلى الله عليه وسلم من الشجرة.
ومن الوحي ما أتى به جبريل عليه السَّلام من المَلَكِ الأعلى إلى النبيء المصطفى؛ وقد حكى الله مثل ذلك فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أو يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ...}الآية[الشورى:51،52]، فصحّ أن كلام الله هو الوحي، و(أنه) ليس بنطقٍ كما قالت المشبهة. وصح أن كلام الله محدثٌ مخلوقٌ.(1/444)


وأما قوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أراد: أو كلاماً يسمعه العبد من غير ناطقٍ مشاهدٍ، كما سمع موسى -صلى الله عليه- الكلام من الشجرة. وليس بين الله وبين خلقه حجابٌ؛ لأنه لو كان بينه وبين خلقه حجابٌ لكان مشابهاً لخلقه، ولكان غائباً عن المحتجب منه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وقد روي عن الحارث عن علي أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل مُولٍّ ظهره يقول: لا والذي احتجب بالسبع. فضربه عليٌّ عليه السَّلام على ظهره ثم قال: من الذي احتجب بالسبع؟ قال: الله، يا أمير المؤمنين. قال: أخطأتَ ثكلتك أمك إن الله عزّ وجل ليس بينه وبين خلقه حجاب؛ لأنه معهم أينما كانوا، قال: فما كفارة ما قلتُ يا أمير المؤمنين؟ قال: الله معك أينما كنتَ. قال: أطعم المساكين؟ قال: لا إنما حلفتَ بغير ربك.
فلما كان العلم من الله لا يصل إلى الناس إلا من الوحي، وكان الوحيُ لا يصلحُ إلى كل الناس لوجوه:
منها أنه لو كان يُوحى إلى كل إنسانٍ في نفسه لكان ذلك سبباً لفساد الناس، ولكان كلُّ ظالمٍ يدّعي أنه أُذن له في الظلم، ولما تبيّن المطيعُ من العاصي.
ومنها أنه إذا لم يكن أمر الناس إلى واحدٍ افترقوا، وإذا افترقوا تباغضوا وتحاسدوا وفسدوا.(1/445)

89 / 115
ع
En
A+
A-