ومنه مفهوم الخطاب في مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ }[الإسراء:23]، فَفُهِمَ من هذا الخطاب أنه لا يجوز للولد أن يفعل بالوالدين ما كان فوق قوله: (أُفٍّ)، كالضرب، والشتم، والغضب، وأمثال ذلك.
ومثله قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا }[الإسراء:16]، المراد به: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها.
ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا }[المجادلة:4]، المراد به: من قبل أن يتماسّا، كسبيله في العتق والصيام، إذ المعنى واحدٌ. ومثل هذا موجودٌ في لغة العرب، قال الشاعر:
عفى الله عنكم كل شاةٍ برجلها

على نفسه يخطي الفتى ويصيب

أراد: كلّ شاةٍ برجلها معلّقة.
وأما القصص، والعبر والأمثال، والمواعظ والأخبار، وأمثال ذلك، فذلك ظاهر لا يحتاج إلى تفسير.
ومن الكتاب آياتٌ مكررة مثناة وذلك لاتِّساع الكلام، والإبلاغ والبيان من الله تعالى لعباده. فهذا ما نذكر في معاني الكتاب، وفيما ذكرنا دليل على ما لم نذكره.(1/436)


فصل في الكلام في الاختلاف في الكتاب
اعلم أن جميع الكفار قد اختلفوا [في الكتاب، ونفو الكتاب].
فقالت كفار العرب: إنه شِعْرٌ. لِمَا سمعوا فيه من الفصاحة والبلاغة والمعاني الحسنة.
وقال بعضهم: هو سحر. لمّا عجزوا أن يأتوا بمثله.
وقال أهل الكتابين: هو مأخوذ ومنتزع من كتبهم، وقالوا: النبيء صلى الله عليه وآله وسلم مُعَلَّمٌ علّمه بعضهم. وذلك لِمَا وجدوا فيه من تصديق ما قبله من الكتب، ولِمَا عرفوا فيه من الحق والقصص والأحكام والمعاني التي يجدونها في كتبهم، وقد ذكر الله قولهم فقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الأحقاف:8ـ10]. والشاهد الذي آمن به من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام رحمه الله، ولذلك قالت اليهود: إنه علّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، فأنزل الله تعالى في ذلك آيةً، وحُجّةً باهرةً، حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا(1/437)


يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103].
وأيضاً فإنهم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بقرآنٍ قبل أن يُسلِمَ عبد الله بن سلام، وأنه لو كان تعلّمه منه أو من غيره لتعلّم الكتابة، وأنه ما كان يكتب ولا ينبغي له، وأن صورة حروف القرآن بخلاف صورة حروف التوراة والإنجيل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:47،48]، فما بَقيَ لأهل الكتاب من حجة.
وأما كفار العرب فإنهم قالوا: هو شعرٌ، ومنهم من قال: هو سحرٌ.(1/438)


وقد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يقول الشعر، ولا ينبغي له، ولا كان ممن يتعلّق بكتب السحر، وأنه كان أمّياً لا يقرأ كتاباً، ولا يخطّه، وقد احتج الله تعالى على جميع كفار العرب والعجم بحجّةٍ واحدةٍ لم يجدوا لها جواباً بقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِي‍رًا}[الإسراء:88]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِي‍رًا }[النساء:82]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:192ـ197].
وأما من خالف في القرآن من المسلمين فإنهم المجبرة، وهم فيه فرقتان: فقالوا جميعاً: (القرآن قديم). ثم افترقوا.
فقالت فرقة: هو هذا المتلوّ.
وقالت فرقة: ليس هو به، لكنّه عبارةٌ عنه، وليس بحروفٍ بل هو معنىً في النفس وهذا حكايةٌ عنه.
وقالت فرقة: هو هذا المتلوّ وهو قديم. وقد قدمنا الاحتجاج عليهم بما فيه كفاية.(1/439)


وقالت المطرفية: القرآن صفةٌ لقلب الملَك ضرورية لا تفارق قلبه، والضروريُّ عندهم لا يفارق شبحه، وهو عرضٌ حالٌّ في قلب الملَك موجود فيه. وقالوا: هذا الذي معنا عبارةٌ عنه وحكاية، وليس هو به، وقد قدمنا الردَّ عليهم بما فيه كفاية عند ذكر الأعراض، إلا أن قولهم: (هو عرضٌ موجودٌ في قلب الملَك) ينقض عليهم اعتقادهم أن العرضَ لا يحلُّ في الجسم.
ومن الرد عليهم وعلى المجبرة: أن الله تعالى ما تعبّد العباد إلا بهذا المتلوِّ، ولا تحدّى الكفار إلا بهذا المتلوّ.(1/440)

88 / 115
ع
En
A+
A-