وعندنا أنه لم يكن في الخمر والميسر ترخيصٌ؛ لأن الله تعالى لم يكن ليُنعم على عباده بالعقول، ويجعلها أكبر حجةٍ عليهم ثم يحل لهم فعل شيءٍ يُفسد عليهم عقولهم. ويُحمل قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}[النساء:43]، على سكر النوم. ويمكن أيضاً أن يكون هذا النهي نزل في أول الإسلام في وقت ضعفه، فلما تمكن الإسلام نهى عنه قطعاً وعزماً لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخل المدينة مهاجراً لو أمر أهل المدينة بكل الفروض لثقل ذلك عليهم ولامتنع أكثرهم عن الدّخول في الإسلام؛ ولتسهيله عليهم الدخول في الإسلام صلّى إلى بيت المقدس، وكانت قبلته الكعبة؛ وقد رُوي مثل هذا التفسير عن ابن عباس.(1/431)


وأما قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}: فليس هذا بأمرٍ ولا إباحةٍ، وإنما هو إخبارٌ من الله تعالى بفعلهم أنهم يتخذون مما أخرج لهم من الأرض حراماً وحلالاً. والرزق الحسنُ هو الحلال، مثل الزبيب والخل وشبهه، ومثل ذلك كثير في الكتاب كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}[النساء:76]، فهذا إخبارٌ من الله؛ وليس هذا الإخبار يُوجب الأمر والإباحة. وقد قيل: إن السكر [هو] حبس الشيء. ويقال: سَكر النّهر إذا سدّه، وقال الله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:14،15]، فصحّ أن السكر هو المنع والحبس.
وأما قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِي‍رٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فإن قول الله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِي‍رٌ} وهذا تحريمٌ عامٌّ، وتشديدٌ، وتغليظٌ، والله لا ينقض ما أكّد، ولا يُحل ما حرّم.(1/432)


وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ليس المراد به منافع للناس فيهما، ولا [في] ثمن الخمر وإنما المراد بالمنافع هاهنا أن الجلد الذي يكون على فاعلهما هو المنافع للناس؛ لأن شارب الخمر إذا جُلِدَ ازدجر هو وغيره، فكان جلده نافعاً للناس كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ}[البقرة:179]، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم )) فصح ما قلنا.
ومن غامض الكتاب قول الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}[الإسراء:110]، وقد استدلت الباطنية ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على إبطال القرآن وإظهار عيبه، وقالوا: هو ينقض بعضه بعضاً، وإذا كان يتناقض كان باطلاً، وقالوا: قوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} يوجب ترك الصلاة؛ لأنه بزعمهم لا يمكنه أن يُصلي بغير جهرٍ ولا مُخافتة.(1/433)


فنقول: ليس هذا الأمر بمتناقضٍ وإنما أمَرَهُ أن لا يجهر بكل الصلاة، ولا يُخافت بكلها، وأمَرَهُ بأن يبتغي بين ذلك سبيلاً، وقد ابتغى صلى الله عليه وآله وسلم بين ذلك سبيلاً، وهو أنه جهر بالقرآة في صلاة الليل وصلاة الفجر، وخافت بها في صلاة الظهر والعصر، وجهر بالأذان، والإقامة والتكبير، وقوله: (سمع الله لمن حمده)، والتسليم في جميع الصلوات؛ وذلك مرويٌّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالأخبار المتظاهرة، وهو إجماعُ الأمة، وقد أمرنا الله باتباعه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7] فبطل قول الباطنية.
ومن القرآن ما هو في مخرجه عامٌّ، وفي معناه خاصٌّ؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:33،34]، فمخرج الآية يدل على أن الله تعالى اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العموم والكمال، والمعنى: أنه خصّ بالاصطفاء من آل إبراهيم وآل عمران من يستحق الاصطفاء لقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة:124].
ومن الكتاب العام لجميع العباد، مثل قوله تعالى: {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ }[الزمر:16].
ومنه العام لجميع الناس المتعبّدين مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21].(1/434)


ومنه العام للمؤمنين مثل قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:9]، فهذا الأمر عامٌّ للمؤمنين دون الكافرين، وذلك لاستماع المؤمنين الأمر، وبُعد الكافرين عن (استماع) الأمر والطاعة.
ومنه الخاص لبعض المؤمنين وهو مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة:55]، فهذه الآية خاصة لعلي أمير المؤمنين عليه السَّلام إذ لا يكون الولي إلا غير الموَلّى عليه.
ومنه ما يوجب العلم مثل قول الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }[الحديد:17] وأشباه ذلك.
ومنه ما يوجب العمل مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[البقرة:43] وأشباه ذلك.
ومنه محذوف الجواب مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا}[الرعد:31]، المراد به: لكان هذا القرآن، فحذف الجوابُ لعلم السامع.
ومثل قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ...} إلى قوله: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:1-6]، أراد: كلا لو تعلمون علم اليقين لَمَا ألهاكم التكاثر، فحذف الجواب لعلم السامع.(1/435)

87 / 115
ع
En
A+
A-