ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}[النساء:15] نسخه قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[النور:2]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خذوهن واقبلوهنّ قد جعل الله لهنّ سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائةٍ ونفي عامٍ، والثَّيِّبُ بالثيبِ الرّجمُ)).
ومما نُسخ قول الله تعالى في أهل الذمّة: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو أَعْرِضْ عَنْهُمْ }[المائدة:42] نسخه قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ }[المائدة:49].
ومما نسخ قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ }[البقرة:282] نسخه قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}[البقرة:283].
ومما نسخ حج المشركين، وفي ذلك ما يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}[المائدة:2] نسخه الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة:28].(1/421)


ومما نسخ قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة:256]، وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ }[ق:45]، وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }[الغاشية:22]، وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ }[المائدة:13]، فكانت هذه الآيات وما شاكلها نزلت على النبيء صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة، فلما هاجر أمره الله بالجهاد، ونسخ الآيات هذه بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِي‍رًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:39،40]، وبقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة:29]، وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة:73].
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً }[التوبة:122] نسخها الله بقوله: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً }[التوبة:41].(1/422)


واعلم أن سورة براءة نسخت كل عقدٍ ـ كان بين المؤمنين والمحاربين ـ وذمّةٍ، وصلحٍ، وشرطٍ، ونسخت الصّلح الذي كان في الأشهر الحرم، وفي مكة لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ }[التوبة:5] إلا ما استثنى الله فيها من قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4].
ومما نُسخ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72] نسخه الله بقوله: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }[الأنفال:75].
ومما نُسخ فرض الوصية للوالدين والأقربين، وذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}[البقرة:180] نسخه الله بآية المواريث. وعلى هذا يُحمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: ((ألا لا وصيّة لوارثٍ ، قد نسخَ الله ذلك بآية المواريثِ)) وهذا مما نُسخ وجوبه وبقي جوازه، يؤيد ذلك قول الله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا }[الأحزاب:6].(1/423)


ومما نُسخ التغليظ في النهي عن مخالطة اليتامى في النفقة والأكل معهم؛ وذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِي‍رًا}[النساء:10]. روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع المسلمون من قبول الوصاية في اليتامى وأن يكفُلُوهم، وتحرّجوا من مخالطتهم، فنسخ الله هذا التغليظ بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:220] يقول: لو شاء لضيّق عليكم. وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِي‍رًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6] المراد به والله أعلم: أن من كان غنياً عن المخالطة لهم والأكل معهم، فليستعفف عن المخالطة لهم والأكل معهم، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف، أي ومن كان فقيراً إلى ذلك فليُخالطهم، وليأكل معهم، ولا يتعمّد الظلم لهم، و[لا] النقص لهم في مالهم.
وقد اختُلف في هذه الآية، فمن الناس من حملها على ظاهرها، وأجاز للوصي الأكل من مال اليتيم إذا كان الوصيُّ فقيراً، وأن يُنفق منه على نفسه ومن تلزمه نفقته. ومن الناس من قال: يتناول منه مثل ما يتناول المضارِب من المضارَب له على سبيل الأجرة.(1/424)


وعندنا أن ذلك لا يجوز لقول الله تعالى: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ومن المعروف أن يُخرج الوصيُّ لليتيم من ماله مثل ما يُخرج لمثله من أولاده ثم يخلطه في نفقة أولاده، ويواسيه بأولاده، ولا ينقصه في ماله ولا في نفقته، فهذا هو المعروف، ويؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ }[البقرة:220].
ومما نُسخ قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12]، وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين أكثروا النَّجوى حتى أضرَّ ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأراد الله أن يُخفف عنه، فأنزل هذه الآية، فامتنع كثير من الناس من المناجاة. وروي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه قال: (إن في كتاب الله لآيةً وفرضاً ما عمل بهما أحدٌ غيري، ولا يعمل بهما أحدٌ بعدي: لما أنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المجادلة:12] كان معي دينار فصرفته، فكنت كلما أردت أن أناجي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدّقت بدرهمٍ، فلم يفرغ الدينار حتى نُسخت الآية الكريمة).(1/425)

85 / 115
ع
En
A+
A-