وتأويل قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} المراد به: بِظُلَلٍ من الغمام، وقد قال الله تعالى -حاكياً عن فرعون: {وَلاَُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه:71] المراد به: على جذوع النخل، ومثل هذا موجود في لغة العرب. وكذلك قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} المراد به: وجاء امر ربّك، والملك، وقوله: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} المراد به: على المُلك اقتدرَ.
وكذلك قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أو كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] المراد به: ثم اقتدر على السماء؛ والقول من الله هو الفعلُ، لا غير، والقول من السماء والأرض هو الإذعان لله والذلة [له].(1/411)
وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }[الحاقة:17] المراد به ـ والله أعلم: ويتولّى مُلك ربك يوم القيامة ثمانية أصنافٍ من الملائكة، ولأنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وقد قال الله تعالى في خزنة النار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر:30،31]، وصح أن الثمانية والتّسعةَ عشر الأصناف كما ذكرنا لقول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر:31].
واعلم: أن من الكتاب ما لم يُطْلِعِ الله على علمه أحداً مثل قوله تعالى: {الم}، وقوله: {المص }، و{المر }، و{الر}، و{كهيعص }، و{طه }، و{ص }، و{حم}، و{حم ، عسق }، وأمثال ذلك، فإن هذه الحروف لم يطّلع على علمها أحدٌ من الناس، ولو أعلم الله بها النبيء صلى الله عليه وآله وسلم لأعلم بها النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أمته.(1/412)
وقد مدح الله تعالى الراسخين في العلم فسمّاهم بالرسوخ، فقال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:7]، وقال الله تعالى للملائكة صلوات الله عليهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}[البقرة:31،32]، فصحّ أن في الكتاب ما أخفى الله على الناس تفسيره، تعجيزاً للعباد، وامتحاناً لأهل الاجتهاد.
واعلم أن تفسير غامض القرآن يخرج على ثلاثة وجوه:
فمنه ما فسّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ }[البقرة:43]، وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة:185]، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران:97] وأمثال ذلك، فإن هذا الأمر من الله تعالى ورد مُجملاً، وفسّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنه ما يستنبطه الأئمة، ويفسره الأئمة (العلماء) الأتقياء، قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83].(1/413)
ومنه ما يرجع فيه إلى أهل اللغة، وذلك مثل قول الله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ }[البقرة:175] فهذا اللفظ لفظُ التَّعجُّبِ، والله تعالى يَجلَّ من أن يتعجَّب؛ لأنه لا يتعجب من شيءٍ إلا من يجهل وقوعه، أو كان عاجزاً عن فعل مثله؛ فهذا معناه: فما اضطرّهم على النار، وليس بتعجُّبٍ، قال الشاعر:
قلتُ لها أَصْبَرَ هذا بنا
أمثال بسطام بن قيسٍ قليل(1/414)
فصل في الكلام في الناسخ والمنسوخ
اعلم أن في الكتاب ناسخاً ومنسوخاً؛ فالمنسوخ ما نُسخَ حُكمُهُ ولم يُنسخ حِفظُهُ وكتابته وتلاوته، والأمة مجمعة على ذلك، إلا فرقة ممن لا يعمل على قولها. ومن المنسوخ ما نُسخ وجوبهُ وحُرم فعله، كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس.
ومن المنسوخ ما نُسخ وجوبه وبقي جوازه، كصوم يوم عاشوراء.
ومن الدليل على أن في الكتاب ناسخاً ومنسوخاً قول الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مِثْلِهَا}[البقرة:106] وفي هذه الآية تقديمٌ وتأخيرٌ أراد: ما ننسخ من آيةٍ نأت بخير منها، أو مثلها، أو نُنْسِها فلا ننسخها، ونقرَّها على حالها، وقد قال الله تعالى: {يَمْحُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، وأم الكتاب هو أصله وهو المحكم، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السَّلام أنه سمع رجلاً يعظ الناس ويقصُّ عليهم، فقال له: هل علمتَ ناسخ القرآن ومنسوخه؟ قال: لا. قال عليه السَّلام: هلكتَ وأهلكتَ.
وسبب الناسخ والمنسوخ ضعف الإسلام في مبتدئه وقوّته في منتهاه، وتخفيفٌ من الله ورحمةٌ للمؤمنين.(1/415)