فمثّل الجبل بالإنسان القاعد، والجبل أكبر من الإنسان. وقد قيل: المِشكاةُ الكوّةُ، وأحسب أنها المحراب، ومثله قول الشاعر:
فرضتُ عليه الخوف حتى كأنما
جعلتُ عليه الأرض مشكاة رُهبانِ
فدلّ على أن المشكاة الصومعة والمحراب ومثله.(1/401)
فصل في الكلام في فضائل القرآن
اعلم أنه لما ثبت أن الله أعظم الأشياء كان كلامُهُ أعظم الكلام، ومعنى قولنا: إن القرآن كلام الله، المراد به أنه وحيُ الله وخلقه وتنزيله، وقد سمّاه الله كلاماً حيث يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}[التوبة:6]، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا }[النساء:164]، وليس المراد به انه نطق بالكلام كما ينطق ذو اللسان واللهوات والآلة والأدوات، ولو كان ذلك كذلك لدخل عليه التشبيه -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وقد قدمنا الاحتجاج على المشبهة (فيما تقدم بما فيه كفاية).
واعلم أن حقيقة كلام الله أنه العلم والنعمة والرحمة، قال عزّ من قائلٍ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}[الكهف:109]، وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران:45].
فصحّ أن الكلمة هاهنا هي عيسى بن مريم عليه السَّلام، وهو نعمةٌ، ورحمةٌ من الله تعالى لمن آمن به وبما جاء به، والكلمات أيضاً هي العلم والنعمة والرحمة، فصحّ أن كلام الله خلقه وفعله.(1/402)
ومن ذكر فضائل القرآن [قوله تعالى]: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]، وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ...} إلى قوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:41-44]، وقوله تعالى: {حم ، تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}[فصلت:1ـ4]، وقال تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِين ِ ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الزخرف:1-4]، وقال تعالى: {حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الدخان:1-6].(1/403)
وقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يدلّ على أنه خلقه في قلب الملك الأعلى جملةً واحدة، ثم أنزله على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم مفصّلاً شيئاً بعد شيءٍ، وذلك مُجمعٌ عليه، فسمّاه الله نوراً وهُدىً وذِكراً، وحكمةً وموعظةً، وبياناً ورحمةً، ونعمةً وشفاءً، وبصائر وفرقاناً. ومعنى اسم الفرقان: أنه البيان الذي يفرق بين الحق والباطل، ويُبيّن الحق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[النحل:64].(1/404)
وفي فضل القرآن ما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه" عن علي عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيها الناس إنكم في زمان هُدنةٍ على ظهر سفر، وإن السير بكم سريعٌ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يُبليان كل جديدٍ، ويُقربّان كلّ بعيدٍ، ويأتيان بكل موعودٍ، فأعدّوا الجهازَ لبُعدِ المُقامِ)). فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله، وما دار الهُدنةِ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دار بلاءٍ وانقطاعٍ، فإذا التبست عليكم الفتنُ كَقِطَعِ الليل المظلمِ فعليكم بالقرآنِ فإنه شافعٌ مُشَفَّعٌ، وشاهدٌ مُصَدَّقٌ، من جعلهُ أمَامَهُ قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النارِ، وهو الدليلُ على خيرِ سبيلٍ، وكتابُ تفصيلٍ، وبيانٌ وتحصيلٌ، والفصل ليس بالهزل، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهُدى، ومنارات الحكمة، والدليل على المعرفةِ لمن عَرَفَ الطّريقَ، فليُولِجْ رجلٌ بصره، وليُبْلِغِ الطريقةَ نظرهُ، ينجُ من عَطَبٍ، ويتخلّص من نشبٍ، فإن التفكُّرَ حياةُ قلبِ البصيرِ كما يمشي المستنيرُ في الظلماتِ بالنورِ بحسنِ تخلُّصٍ وقِلَّةِ تَرَبُّصٍ)). وعن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يا حامل القرآن تواضع لله يرفعك الله ، ولا تعزّز فيُذلك الله، وتزين لله فيزينك الله، ولا تزيّن للناس فيضعك الله، [إن] الله أفضل لك من كل شيءٍ هو دون الله، من وقّر القرآن فقد وقّر الله، ومن استخفّ بحق القرآن فقد استخفّ بحقِّ الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، وحملة القرآن يُدْعَوْنَ في(1/405)