قلنا: إن الخبر غيرُ المُخْبَرِ عنه فقد أراد الله الإخبار بالجنة ولم يرد خلقها، ولو أراد خلقَهَا لكانت قد خُلقت، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْييِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[غافر:68] وقد قدمنا الكلام في الإرادة في موضعه بما فيه كفاية فلا تعلّق لمخالفنا بهذا.
ومعنى قول الله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يريد بقدرته، ومثل ذلك موجود في لغة العرب، قال الشاعر وهو الشّماخ:
إذا ما رايةٌ رُفعت لمجدٍ

تلقّاها عَرَابَةُ باليمينِ

يريد بالقوة.(1/396)


فصل في الكلام في جزاء الأعمال وذكر الخواتم
اعلم أن جزاء العمل موجب، والزيادة على الجزاء فضلٌ من الله تعالى ورحمةٌ، والزيادة ليس لها حدٌّ لأنها فضلٌ من الله، وفضل الله لا حدَّ له، وقد قدمنا الكلام [فيه] بما فيه كفاية، ويدل على ذلك ما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الأعمال عند الله سبعةٌ : عملان موجبان، وعملان بأمثالهما، وعملٌ بعشرة أمثاله، وعمل بسبعمائة، وعملٌ لا يعلم ثوابه إلا الله تعالى. فأما الموجبان: فمن لَقيَ الله عزّ وجلّ يعبده ولا يشرك به شيئاً من خلقه وجبت له الجنة، ومن لَقي الله وقد أشرك به شيئاً وجبت له النار، ومن عمل سيئةً جُزيَ بمثلها، ومن أراد أن يعمل حسنةً ولم يعمل بها جُزي مثلها، ومن عمل حسنةً جُزيَ عشراً، ومن أنفق مالاً في سبيل الله ضُوعفت له نفقتهُ الدِّرهمُ بسبعمائةٍ، والدينار بسبعمائةٍ، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله تبارك وتعالى)).
واعلم أن الأعمال على خواتمها، فمن وافق موتُهُ عملاً صالحاً فقد فاز وظفر بالخير، ومن وافق موته عملاً سيئاً كان من المُعاقَبين النادمين الخاسرين؛ وعلى هذا لو أن عبداً كان على طريقة النجاة مُطيعاً لربّه ثمّ اعتمد معصية الله ومات عليها أنه قد أبطل عمل نفسه، وأحبط حسناته، وكان كمن لم يُطع الله، وكان من أهل النار، ولو أن عبداً كان عاصياً لربّه مُضيعاً للواجبات فاعلاً للمحرّمات ثم تاب من ظُلمه وأناب ثم مات على ذلك، كان عند الله من التائبين، وكان من الناجين الفائزين.(1/397)


ووجه العدل في هذا أن الله تعالى قد أمر عبده بطاعته، ونهاه عن معصيته، ووعد من أطاعه ـ ثم استقام على طاعته إلى أن يلقاه ـ الجنّة، وأوعد من عصاه ـ واستقام على ذلك إلى أن يلقاه ـ النار، وضمن الثواب، وأخبر بما يبطل (به) على العبد عمله، فإذا خالف أمر ربه وأبطل عمل نفسه كان هو الظالم لنفسه. ألا ترى أن الطبيب إذا أعطى العليل دواءً نافعاً له، وقال له: تجنّب كذا وكذا فإنه يفسد هذا الدواء، فخالفه ولم يتجنب ما حماه عنه أن العليل هو الذي أفسد الدواء، ولم يكن على الطبيب في ذلك لائمة ولا حجة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إسألوا الله السَّداد ، فإن الرجل قد يعمل الدّهر الطويل على جادّةٍ من جَوَادِّ الجنة فبينما هو كذلك دؤوباً إذ برزت له جادّة من جوادِّ النار فيعمل عليها، ويتوجه إليها، ولا يزال دؤوباً دؤوباً حتى يُختم له بها فيكون من أهلها، وإن الرجل قد يعمل الدهر الطويل على جادَّةٍ من جوادِّ النار فبينما هو كذلك دؤوباً إذ برزت له جادّةٌ من جواد الجنة فيتوجه إليها ويعمل عليها ولا يزال دؤوباً دؤوباً حتى يُختم له بها)). فصح ما قلنا وما إليه ذهبنا.
ونحن نسأل الله السداد، وحسن الاستعداد ليوم المعاد، وأن يهدينا أوضح الجوادّ، وأن يختم لنا بصالح أعمالنا، ولا يؤاخذنا بسيء أفعالنا إنه لطيفٌ خبيرٌ.(1/398)


باب حقيقة معرفة الكتاب
اعلم أن الله تعالى جعل كتابه حُجّةً له على العباد، وداعياً إلى الحق والرشاد، وزاجراً عن الغي والفساد، ومرغِّباً في الجنة، ومُخوّفاً من النار، وجعله مُؤكِّداً لحجة العقول، وشاهداً بصدق الرسول، وحاكماً بين الناس، ومُبيّناً للإلتباس، وجعل فيه جميع ما يُحتاج إليه من علم الأصول والفروع، ومعرفة الحلال والحرام، ومعرفة القضاء والأحكام والمواريث وعلم الشّرع وقصص الأولين، وبيان ما يكون في يوم الدين، وجعله نوراً للمؤمنين، وضياءً للمهتدين، وجعله بالغاً موجزاً، وقريب المتناول معجزاً، وقد سماه الله هُدىً، وموعظةً، وذكراً، وعزيزاً، ومُباركاً ونوراً، وغير ذلك من الأسماء الحسنة، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:41،42]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]، وقال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}[الزخرف:44]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا(1/399)


نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى:52]، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِي‍رٌ}[التغابن:8]، وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[النور:35]، ونور الله هو القرآن.
وقوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} معناه: نورٌ مع نورٍ، فالقرآن نورٌ والرسولُ نورٌ فصار القرآنُ نوراً على نورٍ. وقد سمى الله نبيئه سراجاً منيراً فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِي‍رًا}[الأحزاب:45،46].
وقول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} المراد به: الله مُنوّرُ السماوات والأرض.
واعلم أن المثل في هذا الموضع أكبر من المُمثّل به، وإنما مثّل الله للناس بما يعرفون، وقد تُمثِّل العربُ الشيء بأصغر منه، قال الشاعر:
كأن ثَبيراً في عَرانينَ وبْلِهِ

كبير أناسٍ في بُجادٍ مُزمَّلِ(1/400)

80 / 115
ع
En
A+
A-