فصل في الكلام في أزواج أهل الجنة
اعلم أن الله تعالى يزوِّج عبيده من إمائه يوم القيامة بمن يشاء وكيف يشاء. فأما من مات مؤمناً وله زوجةٌ مؤمنةٌ فلم تخلف بعده زوجاً فأحسبُ -والله أعلم- أنها زوجته يوم القيامة، وكذلك لو ماتت ولم يتزوّج أختها، ولا من يحرُم عليه الجمع بينهما، فإن تزوج أُختها -بعدها- أو عمتها أو خالتها فزوجته في الجنة الأخرى دون الأولى. وإن مات وتزوّجت بعده فهي للزوج الآخر في الجنّة؛ والدليل على ما قلنا ما روي عن الهادي إلى الحق عليه السَّلام في جوابه للرازي يرفعه إلى النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه سُئل عن زوجة المؤمن هل تكون له زوجة في الجنة إذا كانت مؤمنةً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم يجمع الله بين أهل البيت إذا كانوا مُؤمنين في دار ثواب المتقين)).(1/391)


وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الزوجيّة تنقطع بينهما، واستدلوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كُلُّ سَببٍ ونسبٍ مُنقطعٌ يوم القيامةِ إلا سببي ونسبي)) فهذا الخبر محمول (عندنا) على الشفاعة دون الزوجية. وقول الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ }[المؤمنون:101] المراد به أنه لا ينفع النسبُ يوم القيامة، وقوله: {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} المراد به أن كل إنسانٍ مشغولٌ بنفسه في الموقف ويوم الحساب، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:34-37]، فأما في الجنّة فإنهم يتساءلون، قال الله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور:25-28].
وكذلك أيضاً أهل النار يتساءلون في النار: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ، قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ}[الصافات:28-30] فصحّ أن المراد به: ولا يتساءلون في الموقف، ولا أنساب بينهم نافعة لهم.(1/392)


ويدلّ أيضاً على صحة ما قلنا أن الميّت إذا مات فقد خرج من أحكام الدنيا، وصار من أهل الآخرة، وقد جاء [أيضاً] عن الصالحين من الصحابة وغيرهم من المؤمنين أن الرجل يغسل زوجته إذا ماتت إذا أراد ذلك، والمرأة تغسل زوجها؛ وقد روي عن عائشة أنها قالت: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لَمَا غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير نسائه، ولم يُنكر ذلك عليها أحدٌ. وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل على عائشة وهي تقول: وَارَأساه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا عليكِ لو متِّ قبلي لغسّلتُكِ وكفّنتُكِ وحنطتكِ ودفتكِ)).
وروي أن أمير المؤمنين عليه السَّلام غسّل فاطمة +.
وروي أن أسماء بنت عُميسٍ غسّلت زوجها أبا بكرٍ ولم يُنكر أحدٌ من الصحابة ذلك. فلو كانت الزوجيّة قد انقطعت بينهما لما جاز لواحدٍ منهما أن يغسل صاحبه.
فإن ماتت المرأةُ وتزوج أختها فقد قدّمنا القول أن الزوجيّة قد انقطعت بينه وبين الميتة، وأنها ليست له بزوجةٍ في الجنة بل زوجته الأخرى. وعلى هذا لو ماتت امرأةُ رجلٍ ثم تزوّج أختها قبل أن تُغسل وتُدفن لم يَجزْ له غسلها هاهنا ولا النظر إلى الميتة. وكذلك لو عقد بامرأةٍ عقدة النكاح ولم يدخل بها ثم ماتت وتزوّج بإبنتها قبل أن تغسل وتدفن لم يجز له أن ينظر إلى عورة الميتة. ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا ينظر الله إلى رجلٍ ينظر إلى فرج امرأةٍ وابنتها )) وهذا القول مني اجتهادٌ، وقياسٌ على ما ذكرنا من الأخبار، والله أعلم.(1/393)


ويمكن أيضاً أن يكون حكم تزويج الآخرة غير تزويج الدنيا؛ لأن أحكام الآخرة غير أحكام الدنيا، إلا في العدل فإن أحكام الله تستوي (في العدل) في الدنيا والآخرة.
واعلم أن الله تعالى يُزوج أولياءه في الجنة من حورِ العين؛ وحُورِ العين نساءٌ يخلقهن الله تعالى من الجنة كيف شاء وكما شاء أحسن خَلْقٍ وأجملَ صورةٍ، [كما] قال الله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}[الواقعة:22،23]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:48،49]، وقال في تزويجه لأوليائه بهنّ: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ }[الدخان:54].
وقد اختُلف في الجنة هل قد خلقت أم لم تخلق في الدنيا.
فذهب قومٌ إلى أنها قد خلقت، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}[النجم:13-15].
وعندنا أنها لم تخلق، وأن الله سيُحدثُها يوم القيامة، ويخلقها كيف شاء وحيث شاء.(1/394)


والدليل على ذلك من طريق العقل: أنه لا يُعِدُّ الشيء ويدّخره إلى وقتٍ طويلٍ إلا من يعجز عن إبداعه وقت الحاجة إليه، والله تعالى لا يعجزه شيءٌ ولا يفوته [شيء]. ومن الكتاب: قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:26،27] فدل على زوال الدنيا، وما عليها. وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}[إبراهيم:48]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ }[الأنبياء:104]، وقال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر:67]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ }[الإنفطار:1]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ }[الإنشقاق:1]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}[المعارج:8،9] فصحّ أن السماوات تُبدّل، وكذلك الأرض. فلو كانت الجنّة قد خُلقت لم تكن إلا في السماء أو في الأرض، وإذا كانت قد خُلقت في السماء كيف تُبدّل السماء وتبقى الجنة التي فيها، وما فيها من الحُور والولدان؟ فصح ما قلنا.
فإن قيل: إن مذهبكم أن إرادة الله هي مُراده، فهل قد أراد خلق الجنة أم لم يرده؟(1/395)

79 / 115
ع
En
A+
A-