فصل في الكلام في الشفاعة
اختلفت الأمة في الشّفاعة.
فعندنا وعند المعتزلة أن الشفاعة للتائبين، وقد تكون أيضاً في الدّرجات، والزّيادات.
وذهبت المجبرة إلى أن الشفاعة لأهل الكبائر، واستدلّوا بما روي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )). ونحن نعارض قولهم بكتاب الله، وبقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال الله تعالى في الملائكة صلوات الله عليهم: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء:28]، وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18]، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }[المدثر:48]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}[البقرة:48]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الإنفطار:17-19] فصحّ أن الشفاعة لا تكون لأهل الكبائر.(1/386)


وقد ورد في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن الشفاعة للتائبين دون العاصين؛ من ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، رُوي عن محمد بن الحسين بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي " قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلنا له خزيرةً، وأهدت لنا أمُّ أيمن قعباً من لبنٍ، وزُبداً، وصحفةً من تمرٍ فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكلنا معه، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمسح وجهه ولحيته بيده، ثم استقبل القبلة فدعا الله جلّ ذكره بما شاء، ثم أكبّ إلى الأرض بدموعٍ غزيرةٍ مثل المطر، ثم أكبّ إلى الأرض ففعل ذلك ثلاث مرات، فَهبنا أن نسأله صلى الله عليه وآله وسلم، فوثب الحسين عليه السَّلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكى وضمّه إليه وقال: ((بأبي [أنت] وأمي ما يبكيك ؟ فقال: يا أبتِ إنّي رأيتك تصنع ما لم تكن تصنع مثله، قال: يا بني، إني سُررتُ بكم سُروراً عظيماً لم استر بكم قبله، وإن حبيبي جبريل -صلى الله عليه وسلم- أتاني فأخبرني بأنكم قتلى، وأن مصارعكم شتّى، فأحزنني ذلك، فدعوتُ الله لكم. فقال الحسين عليه السَّلام: يا رسول الله صلى الله عليك من يزورنا على تَشَتُّتِنَا وتباعد قبورنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: طائفة من أمتي يريدون بذلك بِرّي وصِلَتِي، إذا كان يوم القيامة زرتهم الموقف فأخذت بأعضادهم فأنجيتهم من أهوالها وشدائدها)).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حفظ على أمتي أربعين حديثاً في السّنة كنت له شفيعاً يوم القيامة)).(1/387)


وعن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة أنا شفيعٌ لهم يوم القيامة : الضارب بسيفه أمَامَ ذرّيتي، والقاضي لهم حوائجهم عند اضطرارهم إليه، والمُحبّ لهم بقلبه ولسانه)). فصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع إلا للمحسنين.
ومما يؤيد ذلك ما روي عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دُعي إلى جنازةٍ سأل عنها فإن أُثْنِيَ عليها بخيرٍ صلّى عليها، وإن أُثْنِيَ عليها بغير ذلك قال: ((شأنكم بها ))، ولم يُصلِّ عليها. فلو كان يشفع في الآخرة لأهل الكبائر لجاز له أن يصليَ عليهم، ويَدعُوَ لهم في الدنيا.(1/388)


فصل في الكلام في أطفال المشركين
اختلفت الأمة في أطفال المشركين، فعندنا وعند المعتزلة أنهم في الجنّة، وأنهم كأطفال المسلمين إلا في الميراث والقبر، فإن آباءهم يرثونهم ويقبرونهم في مقابرهم.
وذهبت المجبرةُ إلى أنهم مُعذَّبونَ مع آبائهم في النار، واستدلوا بما رووا عن خديجة + أنها سألت النبيء صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: أين أطفالي منك؟ قال: ((في الجنّة . فقالت: فأين أطفالي من غيرك؟ قال: في النار وإن شِئتِ أسمعتُك ضُغَاءهُم)). وبما رووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الوائدةُ والموءودةُ في النار )) ولم يصح الخبر عندنا. فإن صحّ -أي خبر خديجة- فالمراد بذكره الكبار، وقد تُسمِّي العربُ الغلام الشاب البالغَ طفلاً. قال الشاعر:
عَرَضْتُ لِعَامر والخيلُ تُرْدِي .... بأطفالِ الحروبِ مُشمِّراتِ

وأما الموءودة فإن صح الخبر فالمراد (به) الكبيرة؛ ومما يُؤيد ذلك قول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:8،9] فدلّ على أنها كبيرةٌ؛ لأن الصغيرة لا تُسألُ، ولا ذنبَ لها، ولا حساب عليها. والموءودة: هي التي تُدفن في القبر حيّة، وكانت الكفار تفعل ذلك، والموئد هو المُثْقِلُ قال الله تعالى: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255] المراد به ولا يُثقِلُهُ.(1/389)


وأما قول الله تعالى -حاكياً عن نوحٍ عليه السَّلام: {وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا }[نوح:27]، فالمراد به أن عاقبتهم إذا سَلِمُوا أن يكونوا مثل آبائهم فُجّاراً كُفاراً. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِي‍رًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ }[الأعراف:179] يريد: أن عاقبتهم إلى جهنم. وقال تعالى في موسى عليه السَّلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8] المراد به: أن عاقبته أن يكون لهم عدواً وحزناً، ومثل ذلك موجود في لغة العرب، قال بعض الحكماء:
لِدوا للموتِ وابنُوا للخرابِ .... فكلكُم يصيرُ إلى ذهابِ(1/390)

78 / 115
ع
En
A+
A-