واعلم أن للكتاب في كتاب الله أربعة معانٍ: فكتابٌ وهو العلم، وكتابٌ وهو الكتاب المكتوب بالقلم -وقد ذكرنا ذلك- وكتابٌ وهو الفرض؛ قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة:183]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[البقرة:216] يريد: فرض عليكم. وكتابٌ هو الحكم؛ قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:21] يريد: حكم الله. وقد يمكن أن يُحمل الكتاب على معنى خامس وهو أن يمكن أن يكون كتب الله بمعنى: جعل الله، وذلك قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}[المجادلة:22]، يقول: إنه قد أرسخ في قلوبهم الإيمان حتى صار مثل الخلق، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات:7].(1/381)
فصل في الكلام في الصِّراط
واختلفوا في الصّراط؛ فعندنا وعند المعتزلة أن الصراطَ هو الطريقُ. والطريقُ طريقان: طريق الحقّ، وطريق الباطل. والصراط المستقيم هو طريق الحق.
وقالت الحشوية: هو أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشَّعرة، ولو كان كما قالوا لكان ذلك تكليف ما لا يُطاق. وأيضاً فإن التكليف قد سقط في الآخرة لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الدنيا دار عملٍ ولا حسابٍ ، والآخرة دار حسابٍ ولا عملٍ)).
والذي يدل على صحة ما قلنا قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ}[الفاتحة:6،7]، فلو كان صراطاً واحداً للمطيع والعاصي لما أبْدل وبيّن، ولقال: اهدنا الصراط، ولم يقل: المستقيم، ولا قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، فلما قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} علم السامع أن ثمّ صراطاً غير مستقيمٍ، ثم زاد بياناً، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهذا يُسمّى بدل البيان، فبيّن بياناً ثانياً أن [ثم] لغير هؤلاء صراطاً.
ومما يُوضح ما ذكرنا في البدل أنّك إذا قلتَ لرجلٍ: (أُدع الرجل زيد بن عمروٍ) أن هذا البدل يكون بياناً؛ لأنك لو قلت: (أُدع الرجل)، لأشكل على المأمور مَنِ الرجل؟ لأن الرجال كثير، فلمّا قلت (زيد بن عمروٍ) بيّنت له ففهم قولك فصحّ ما قلنا.(1/382)
وقول الله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} دليل على أن الله قد أنعم عليهم فاستثناهم من الذين هداهم الصراط المستقيم؛ ولأنه من شرط الاستثناء أنه لولا هو لدخل المستثنى في جملة من اسْتُثْنِيَ منه، فلو لم يُنعم على المغضوب عليهم والضالين لَمَا استثناهم ولأجزأ قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} فصح ما قلنا.(1/383)
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[الشورى:52،53]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الزمر:71-75] فبيّن أنهم يُساقون زُمَراً، و[بَيَّن] أن للنار أبواباً، وللجنّة أبواباً. وقال الله تعالى في النار: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، فلو كان الصراط كما قالت الحشوية، لَمَا كانوا يُساقون زمراً،(1/384)
ولما كان للجنة أبوب وللنار أبواب، فصح أن الصراط هو الطريق.
قال الشاعر:
دعسنا أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذلَّ من الصِّراطِ
وأن للجنّة طريقاً، وللنار طريقاً.
وقد اختُلف في عدد أبواب الجنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنها ثمانية أبوابٍ، وروي عنه ما يدل (على) أنها أكثر من ذلك. وروي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من اجتنب من الرّجال أربعاً ، وعمل من النساء أربعاً، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، من اجتنب من الرجال: الدّماء، والأموال، والفروج، والأشربة. والمرأةُ: إذا حصّنت فرجها، وصلّت خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها)). وروي عن سلمان [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صلى ثماني ركعات من الليل ، والوتر، يُداوم عليهن حتى يلقى الله بهن فتح الله له اثني عشر باباً من الجنة يدخل من أي بابٍ شاء)). فدلّ على أن أبواب الجنة أكثر من ثمانية. ويُحمل الخبر الأول في الثمانية الأبواب أنها لجنسٍ من الناس، والله أعلم.(1/385)