خبر عمّا أدخلهم النار، وقد قال الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً ، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7ـ11]، فكانت الناس على ثلاثة أفنان: فسابقٌ وهو الذي يدخل الجنة بعمله، قال الله تعالى في آخر الآية: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[الواقعة:24]، وفنٍّ وهم أهل النار، وفنٍّ وهم الأطفال؛ وهم يدخلون الجنة بغير عملٍ منهم بل تفضُّلاً من الله، تفضّل عليهم بالجنة، وعوضاً منه على ما أصابهم من الضّرِّ والأمراض والموت.
وكذلك البهائم فإن الله يُثيبها ويعوضها بتمليكه الناس إياها وتسخيرها لهم، فيعوضها في الجنة؛ وكذلك الوحوش، وجميع ما خلق الله من الحيوان، فإنه قد نالها الضّر في هذه الدنيا من الجوع والعطش، والخوف والموت، وغير ذلك.
والدليل على ما قلنا من طريق العقل: أنه قد ثبت أن الله تعالى عدلٌ [حكيم]، وأنه رحيم رؤوف كريم، وأن عفوه يُرجى عمّن أذنب، فكيف من لم يُذنب؟ وهي تأْلم، وتجوع، وتضمأ، وتهزل، وقد رأينا الناس يكدُّون البهائم كدًّا عنيفاً، ويستخدمونها حتى تبلغ الغاية من الهزال والموت. ومنها ما يذبحه الناس ويطبخونه بالنار ويأكلونه، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((في كل كبدٍ حَرّى أجرٌ )).(1/376)


ورُوي أيضاً الخبر المشهور: ((تقربوا إلى الله بإكرام البهائم )). وروي النهي عن الإغراء بين البهائم. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى حماراً موسوماً في وجهه فلعن من وسمه. فدل ذلك على أنها تأْلم، وذلك بيِّنٌ مشاهدٌ، فصح أن الله تعالى يعيضها بما سخّرها للناس وذللها لهم وملّكهم إياها، ولو لم يعضها بذلك لكان ذلك ظلماً لها -تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
وقد صح بنص القرآن وبالإجماع أن جميع الحيوان يحيا يوم القيامة ويُحشر، قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِي‍رُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}[الأنعام:38].
فإذا كانت تُحشر بلا شك فلا بد لها بعد حشرها من أحد ثلاثة وجوه: إما أن تدخل النار. أو الجنة، أو تُمات وتَفنَى.
فإن قيل: إنها تُماتُ. فلأيّ شيءٍ حُشرت ثم أُميتت وأُفنيت؟ فلو كان ذلك كذلك لكان عبثاً إحياؤُها يوم القيامة وإماتتها. فصحّ أن الآخرة هي دار الحيوان، وأنه لا يذوق أحدٌ موتاً بعد الحشر والنشور.(1/377)


وإن قيل: تدخل النار. فما ذنبها الذي تدخل به النار؟ وهذا ما لا يُعقل ولا يقول به أحدٌ، ولم يبق إلا إدخال الله لها الجنة، وفي رحمة الله ما يسعها -الذي وسعت رحمته كل شيءٍ- وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا }[النحل:111] والبهائم من ذوات النفوس، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضل الجهاد أن تُقتل وتُعقر فرسُكَ في سبيل الله )) فإذا كان الرجل يأتي يوم القيامة يجادل عن نفسه فكذلك الفرس الذي يُعقر تحته تأتي يوم القيامة تُجادل عن نفسها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من قتل عصفوراً عبثاً أُوقِفَ به يوم القيامة فيقول: يا رب إن هذا قتلني عبثاً)) -أو قريباً من هذا- فإني حفظت المعنى ونسيت اللفظ.
فأما السباع والحيّات والعقارب وما يُؤذي الإنسان من الحيوان، فيجوز أن يجعلها الله من عذاب النار ولا تكون النار تُؤذيها -كخزنة النار- ورُوي في التفسير مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مشايخ المعتزلة من قال: الميزانُ هو الميزانُ المعقول بين الناس، وأنّه يجعل مكان الحسنة في الميزان نوراً، ومكان السيئة ظلمةً، وتُوزن فيكون الحكم للراجح. ومنهم من قال: لكل واحدٍ ميزانٌ. ومنهم من قال: هو ميزانٌ واحدٌ. وقد ذكرنا ما يدل على فساد هذا القول من أن الأعراض لا يصح وزنُها، ولا توزن إلا الأجسام.(1/378)


فصل في الكلام في الكتاب
واختُلف في الكتاب الذي يُوتَى الإنسان يوم القيامة:
فقال قوم من المعتزلة: هو العلم.
وعندنا وعند بعض المعتزلة وسائر الأمّة أنه الكتاب المعقول، وأن الله تعالى وكّل الملائكة -صلى الله عليهم- على جميع المكلفين من الآدميين يكتبون ما يفعلون، وقد ورد بذلك القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الإنفطار:10-12]، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:17،18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]، وقال تعالى حاكياً قول النادمين يوم القيامة: {يَاوَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِي‍رَةً وَلاَ كَبِي‍رَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيه ، إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيه ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ(1/379)


فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه ، يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ، مَا أَغْنَى عَنّي مَالِيه ، هَلَكَ عَنّي سُلْطَانِيه}[الحاقة:18-29]، وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:13،14]، وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ، وَكُلُّ صَغِي‍رٍ وَكَبِي‍رٍ مُسْتَطَرٌ}[القمر:52،53]. فصحّ أن الكتاب هو الكتاب المعقول.
ومعنى قول الله تعالى: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يريد: فِعْلَه، خيره وشرّه، وسعادته وشقاوته، قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}[يس:18،19]. وحجّة من قال: (الكتاب هو العلم) قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[الروم:56]. قالوا: المراد به: لقد لبثتم في علم الله. وقد يمكن أن يُحمل معنى الآية على هذا، ويمكن أن يكون المراد به: لقد لبثتم فيما وجدنا في كتاب الله الذي هو القرآن أنّكم لبثتم إلى يوم البعث.(1/380)

76 / 115
ع
En
A+
A-